12 شعبان 1446 هـ   11 شباط 2025 مـ 5:01 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | السياسة في الإسلام |  سيطرة الذات: قراءة نفسية للإرهاب الفكري
2024-12-13   2399

سيطرة الذات: قراءة نفسية للإرهاب الفكري

سيطرة الذات: قراءة نفسية للإرهاب الفكري

الشيخ معتصم السيد أحمد

 

يعدّ مصطلح "الإرهاب الفكري" من المصطلحات المعاصرة التي باتت تتردد بكثرة في الأوساط الثقافية والإعلامية، متزامناً مع مفاهيم أخرى مثل الحريات، والحقوق، والديمقراطية، التي تهدف إلى تعزيز المساواة بين البشر في الحقوق المدنية والفكرية. ومن هذا المنطلق، يمكن وضع هذا المصطلح في الإطار التوجيهي والتربوي، حيث لا يسعى إلى صياغة نظرية معرفية أو بناء مبدأ فلسفي، بل يهدف إلى تقويم السلوك الإنساني الحضاري. فالمصطلح يعكس ظاهرة سلبية موجودة في مختلف المجتمعات البشرية، سواء تجلت في السياق الديني أو السياسي أو الاجتماعي.
إن ارتباط كلمتي "الإرهاب" و"الفكر" معاً يعكس علاقة سلبية بينهما، حيث تُعتبر الحرية شرطاً أساسياً لعملية التفكير، بينما يُعدّ الإرهاب اعتداءً على تلك الحرية. لذلك، يحمل المصطلح في طياته نقداً لسلوك يتنافى مع قيم التفكير الحر. وعلى الرغم من اتفاق الجميع على رفض العلاقة بين الإرهاب والفكر من حيث المبدأ، إلا أن هذه الظاهرة تبقى قائمة في الواقع الإنساني، مما يجعل المصطلح أداةً لإدانة سلوكٍ مُستنكرٍ بالأصل، وليس لتقديم قناعة جديدة. ومن هنا، فإن وجود مدافعين عن الإرهاب الفكري أو محاولة تأصيله دينيّاً أو ثقافيّاً أو سياسيّاً أمر مستبعد، مما يُبرز ضرورة معالجة هذه الظاهرة من منظور نفسي قبل أن تكون فكرية أو ثقافية.
فالإنسان بطبيعته الغريزية يميل إلى التسلط وفرض السيطرة، وقد تدفعه أنانيته واحتكاره للمصالح إلى اتخاذ مواقف عدائية تجاه الأفكار التي تهدد مكاسبه. وعليه، فإن مواجهة الإرهاب الفكري تتطلب فهماً أعمق للدوافع النفسية التي تغذيه، أكثر من مجرد التركيز على الجوانب الفكرية أو الثقافية.
إذا سلمنا بأن الأهواء النفسية هي الجذور الأساسية لظاهرة الإرهاب الفكري، فإن المعالجات الفكرية والثقافية لن تكون ذات تأثير فعّال في القضاء على هذه الظاهرة أو تفكيكها. هذا التصور يتعارض مع النهج السائد لدى أغلب من تناولوا هذه القضية، حيث تركزت المعالجات المطروحة على تأصيل مبدأ الحرية فكرياً وثقافياً، والتأكيد على أهمية تكافؤ الفرص. ومع ذلك، يبدو لي أن هذه المقاربة لا تضع يدها على الخلل الحقيقي الذي يغذي هذه الظاهرة؛ إذ إن المشكلة لا تكمن في عدم إيمان الإنسان بالحرية، بل في مصالحه التي تجعله عاجزاً عن الالتزام بمبادئها.
من هنا، فإننا في هذا المقال لا نسعى إلى التأصيل لمبدأ الحرية أو تقديم إدانة فكرية وثقافية للإرهاب الفكري، باعتباره ظاهرة مدانة ومرفوضة في نظر الجميع، بل نهدف إلى الكشف عن الدوافع النفسية التي تجعل هذه الظاهرة متفشية في المجتمعات الإنسانية.
مفهوم الإرهاب الفكري
الإرهاب الفكري يتمثل في غياب احترام الرأي الآخر، ويتجلى ذلك في صور متعددة تبدأ بالسخرية وعدم الاكتراث، وتنتهي بالعنف المادي أو المعنوي من أجل إسكات هذا الرأي أو مصادرته. وفقاً لما ورد في تعريف موسوعة "ويكيبيديا"، فإن الإرهاب الفكري هو نوع من الأيديولوجيات التي تنكر على الآخر حقه في حرية التعبير والعقيدة، وتحجر على العقول بحجة تعارض الأفكار مع ثقافة أو مذهب أو عقيدة معينة.
ورغم أن هذا التعريف يصف مظاهر الإرهاب الفكري بدقة، إلا أنه يربط الظاهرة بدوافع أيديولوجية، مما يمنحها شكلاً من أشكال التبرير؛ إذ إن الأيديولوجيا –مهما كانت مغلوطة– تمثل في نظر معتنقيها دافعاً مشروعاً. لكن الإرهاب الفكري في جوهره فعل مدان في جميع الأحوال، لأنه ينطلق من انحراف نفسي يعبر عن نرجسية النفس وغرورها.
اعتقاد الإنسان بصوابية أفكاره لا يمكن أن يكون مبرراً لممارسة الإرهاب الفكري ضد الآخرين؛ فالأفكار إذا كانت قائمة على أسس عقلية ومبررات منطقية، فإنها لا تغلق الباب أمام النقاش والبحث عن الحقيقة، بل تحفز صاحبها على اختبارها من خلال النقد والمراجعة. لهذا السبب، نجد أن الإنسان كلما ارتقى علمياً وفكرياً، زاد تواضعه للحقيقة وانفتح على آراء الآخرين. أما إذا كان هذا الاعتقاد مبنياً على هوى النفس وغرورها، فإنه يقود حتماً إلى تهميش حقوق الآخرين في التفكير والتعبير.
وعليه، فإن المشكلة لا تكمن في الاعتقاد بأحقية فكرة ما، طالما أن هذا الاعتقاد يستند إلى أسس علمية ولا يعطل المسار التكاملي للمعرفة الإنسانية. فالمعرفة بطبيعتها تراكمية، تتيح المجال للتصحيح والتطوير، كما أن العقلاء يدركون دائماً أن كل معرفة –مهما كانت راسخة– تحتمل هامشاً من الخطأ. ومن خلال هذا الفهم، يمكننا نزع أي مبررات خفية لظاهرة الإرهاب الفكري، وإرجاعها إلى جذورها النفسية المتمثلة في نزعة الإنسان إلى الغرور والاحتكار، لا إلى مجرد الاختلاف في الأفكار.
ومن هذه الزاوية، فإنني لا أتفق مع فهد الطريسي في تعريفه للإرهاب الفكري عندما قال: "كل نشاط من شأنه أن يعمل على فرض رأي محدد، أو يجبر الاخرين على سلوك ما يعتقد من يقوم بممارسة النشاط أنه صواب"  إذ أن الإرهاب الفكري، وإن كان يُمارس على مستوى النشاط الإنساني الفردي أو الاجتماعي أو السياسي أو الإعلامي، إلا أنه يتميز بأنه ينطلق من منطق القوة وليس من قوة المنطق. هذا التفريق يوضح أن الإرهاب الفكري لا ينبع من اعتقاد صادق بصوابية الأفكار، بل من نزعة للهيمنة والسيطرة.
فعلى سبيل المثال، دكتاتورية السلطة السياسية، تطرف الجماعات الدينية، هيمنة العصبيات القبلية، أو التمايز الطبقي، لا يمكن ردها إلى تأثير الشعور بامتلاك الحقيقة وحده، بل تعود في الأساس إلى نفسية تميل إلى الاستفراد بالمصالح واحتكارها. هذه النفسية تدفع صاحبها إلى مصادرة حقوق الآخرين بغض النظر عن الأيديولوجيا التي يعتنقها. ومن هنا يمكننا القول إن الإرهاب الفكري حالة نفسية تعبر عن نزعة الإنسان للهيمنة والسيطرة، وتتجلى مظاهرها في فرض الرؤية الخاصة ومصادرة آراء الآخرين باستخدام كل الوسائل المتاحة.
التحليل النفسي للإرهاب الفكري
إن شخصية الإنسان تُبنى على عوامل كثيرة ومتداخلة تشمل الوراثة، التربية، المحيط الاجتماعي والسياسي، والبيئة المحيطة به. لذا فمن الطبيعي أن نلاحظ اختلافات وتمايزات بين شخصيات البشر. وشخصية الإنسان تلعب دور الوسيط بينه وبين الحقائق الخارجية، حيث تؤثر في ميوله الفكرية وسلوكياته. ويبرز هنا دور حب الذات أو ما يعبر عنه القرآن بـ هوى النفس، الذي يشكل المحرك الأساسي لتحيزات الإنسان وعدم موضوعيته في الرؤية.
عندما تتحكم الذات في رؤية الإنسان للعالم، لا يعود قادراً على رؤية الفوارق بينه وبين الآخرين، بل يرى نفسه في كل شيء. وحينها يصبح إهمال حقوق الآخرين أو مصادرتها أمراً طبيعياً نتيجة لهذه الذاتية المفرطة. ومع أن القدرة على فرض السيطرة لا تتوفر للجميع، إلا أن هذه الظاهرة تبرز بشكل خاص لدى أولئك الذين يمتلكون سلطة سياسية، عسكرية، مالية، أو جهوية. أما الفئات الأخرى من الناس، فعادة ما تتكتل في مجموعات تجمعها روابط كالعرق، الدين، السياسة، أو المصالح المشتركة، مما يمنحها قوة تتيح لها مصادرة حقوق الأقلية.
هذا النمط من السلوك البشري لم يقتصر على المجتمعات البدائية فقط، بل نجده حاضراً حتى في المجتمعات المدنية والنظم السياسية الحديثة. فرغم سعي هذه النظم لتحقيق توازن في حقوق المواطنين، فإن ذلك غالباً ما يكون مدفوعاً بالخوف من الفوضى التي قد تهدد مصالح النخب السياسية والمالية، وليس من إيمان حقيقي بالعدل والمساواة.
وبناءً على ذلك، فإن حب الذات هو المسؤول الأساسي عن توليد الصفات النفسية السلبية مثل الكِبر، الحسد، التعصب، والعنصرية، التي تمثل الجذر الطبيعي لظاهرة الإرهاب الفكري. هذه الصفات، حينما تتجذر في نفس الإنسان، تدفعه إلى ممارسة الإقصاء وفرض الرأي بوسائل عنيفة أو ناعمة، مما يجعل الإرهاب الفكري نتاجاً مباشراً لنرجسية الإنسان وتضخم ذاته، لا لاقتناعه بحقائق موضوعية أو مبدأ فكري أصيل.
الإسلام والإرهاب الفكري
من خلال ما تم عرضه، يتبين أنه لا يوجد أي فكر أو عقيدة أو تصور معرفي يمكن أن يبرر ظاهرة الإرهاب الفكري. إن حضور هذه الظاهرة في بعض التوجهات الدينية والسياسية لا يرتبط بطبيعة الأفكار الدينية أو السياسية نفسها، بل يعود إلى طبيعة الإنسان الذي تسكنه الأنا وحب السيطرة. وهذا يؤكد عدم مسؤولية فكر بعينه عن هذه الظاهرة. ومن هنا، نرفض محاولات ربط الإرهاب بالإسلام، كما نرفض محاولات الجماعات المتطرفة التي تسعى لتبرير إرهابها باسم الإسلام.
وقد أكدت العديد من الدراسات المتعلقة بالإرهاب على تأثير العقد النفسية والانحرافات التربوية في انضمام الشباب إلى الجماعات المتطرفة. بناءً على ذلك، يتطلب القضاء على الإرهاب، سواء كان فكرياً أو دموياً، معالجة نفسية قبل أي معالجة فكرية. ومن هنا، يُعد الإسلام، الذي يمثل مشروعاً أخلاقياً يهتم بتزكية النفس وتربيتها، الأنسب لمكافحة هذه الظاهرة. لذلك، جعل الإسلام تزكية النفس مقدمة للعلم، كما قال تعالى: "يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ".
وكذلك يشترط الإسلام لقيام الإنسان في طريق الحق التخلي عن كل العقد التي تثقل كاهله، كما قال تعالى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ". إن الغرور والتكبر والحسد والأنانية والعنصرية وكل النزعات الجاهلية تشكل أغلالاً تمنع الإنسان من الرؤية الموضوعية للأشياء. في المقابل، يعيد توحيد الله للإنسان توازنه، لأن الاعتراف بالله يستتبع الاعتراف بخلقه، مما يشكل الأساس لحقوق الجميع.
وقد حذرنا الله من عبادة الطاغوت والركون إلى الظالمين لكي يبعد الإنسان عن سيطرة الهوى وغلبة الشهوات. ورغم أن الإسلام يمثل الحق المطلق، إلا أنه لم يُمارس الإكراه مع من يختلف معه، حيث قال تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". وقال تعالى أيضاً: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ".
وقد اعتمد النبي صلى الله عليه وآله في دعوته على الحكمة والموعظة الحسنة، فقال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". كما اختصرت مهمة الرسول في الإبلاغ والتذكير بالحق، حيث قال تعالى: "طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَنْ يَخْشَى". وقال أيضًا: "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ". هذه الآيات تؤكد ابتعاد الإسلام عن ممارسة الإرهاب الفكري ضد المخالفين.
بل إن القرآن قد أورد حجج المخالفين وقرنها بقداسته، كما هو الحال مع بقية الآيات التي لا يجوز للإنسان المسلم أن يمسها إلا بعد وضوء، رغم أنها تعبر عن آراء المخالفين. وعندما خاطب الرسول صلى الله عليه وآله الكفار، لم يقل لهم إنهم على الباطل، بل قال: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ".
إذن، فإن كل الممارسات السلبية والعنف والإرهاب الذي مورس من بعض المسلمين ضد الآخرين يعكس نفسيات منحرفة لأصحابها، ولا علاقة لها بالإسلام كدين، بل هي سلوكيات تتنافى مع جوهره.
وفي الختام، إذا كان الإسلام يعترف بحق الإنسان في التعبير عن رأيه ويدعو إلى الحرية الفكرية، فإنه لا يبرر أبداً أي نوع من الإرهاب الفكري الذي يسعى إلى قمع الآراء المخالفة أو فرض الهيمنة الفكرية على الآخرين. بل، يؤكد الإسلام على أن الحوار والتفاهم هما السبيل الأمثل لتحقيق التعايش والسلام بين البشر، وأن كل محاولة لتقويض هذه القيم تحت أي مسمى هي في جوهرها مخالفة لما جاء به الدين.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م