8 جمادي الاول 1446 هـ   10 تشرين الثاني 2024 مـ 6:21 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | محمد (صلى الله عليه وآله) القائد |  الكفالة المجتمعية عند النبي القائد
2019-12-31   2375

الكفالة المجتمعية عند النبي القائد

انفرد الإسلام، دون الأديان الأخرى، بالتأسيس لمبدأ الكفالة بين الناس من ضمان بيت مال المسلمين، وهو نظام اقتصادي متقدم ومتحضر، يضمن من خلاله الفرد حياته بشكل كريم قبالة ما يمنحه للمجتمع.
ووفقا لهذا النظام، فأن الدولة ـ من خلال بيت مال المسلمين ـ ملزمة بتقديم عطاءها الشهري (وقد يكون يوميا أو اسبوعيا) بحسب تقديرات ولي الأمر.
ويحصل رعايا الدولة الإسلامية على هذه الميزة على قدم المساواة بين الجميع، لا فضل لأبيض على اسود، أو عربي على أعجمي، او مهاجر على أنصاري، أو سيد على عبد، باعتبارهم عيال الله في الأرض، وليس للحاكم غير منحهم ما منحهم الله سبحانه وتعالى، خصوصا وإن هذه الأموال إنما هي أموالهم ـ مال عام ـ وبالتالي فأن مليكته لهم على سبيل التساوي المبني على تساويهم بالمواطنة.
وقد بدأ هذا النظام التكافلي ما أن بدأ النبي الأكرم تأسيس دولته في المدينة المنورة، وقد سبق بذلك كل الحضارات والأمم ـ فضلا عن التشريعات السماوية ـ حتى صيرها سنة فعلية طول أمد بقاءه الشريف بين المسلمين.
وقد فعل ذلك، من خلفه صلوات الله عليه وآله بالمرحلة الأولى، من خلال الخليفة السياسي الأول، سنة منه للنبي الأكرم صلوات الله عليه وآله، الى أن انحرفت هذه السنة العظيمة أيام خلافة الخليفة السياسية الثاني، مجتهدا قبالة النص النبي، بتمييز العربي على غيره، والسيد على عبده، والقرشي على الإعرابي، وقد شكل بذلك منعطفا خطيرا، سيهدد المنظومة المجتمعي بالخطر الكبير مستقبلا. 
كما عمد الخليفة الى تمييز رؤساء القبائل على افرادها، ووجهاء القوام على عامتهم، بغية صناعة حواشي حاكمة تسهل عليه أمره، وإن جانب الحق.
استمر الانحراف الخطير هذا الى أن صارت الأقلية الحاكمة مترفة على حساب الجماهير المدقعة بالفقر حد الفحش، وهو ما مكن الخليفة السياسي الثالث من الاستفادة مما أسس له الثاني، كسبا لذات الفئة المتزلفة، عملا بنهج سابقه، وتأسيسا لثقافة كارثية قوامها: "أن أموال المسلمين حكرا على طبقتهم الحاكمة"، إذ راح الثالث منهم يعطي بإغداق الى قرباءه وحواشيه حتى تململ الناس، وظنوا سوء بالتشريع السماوي، وطفح كيل العوام منهم وصارت الفتن تتناوش المجتمع الإسلامي من كل حدب وصوب، خصوصا وأن الطبقية بدأت بالتفاقم، وظهرت الفوارق المعاشية بين الناس، فهنا قريب مترف حد السمنة، وهناك فقير مدقع بالفقر حد الجوع، وهو ما أيقظ بوادر الثورة ضد هاذ الواقع، وبذر فيه بذرة الصراعات بين الطبقات المجتمعية المنسحقة من جهة، وطبقة الحكومة المترفة من جهة ثانية، حتى أعدمت مفاهيم العدالة الاجتماعية التي نادى بها الرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله، مع أن بوادر هذا التشتت كان بينة للعيان عند كل ذي لب، حتى إن الخليفة الثاني ـ من استن هذه البدعة ـ كان قد ندم على فعلته بعدما لمس التحولات السلبية في المجتمع الإسلامي، وقد عزم على تغييرها بقوله: " إن عشت هذه السنة ساويت بين الناس ، فلم أفضل أحمر على أسود ، و لا عربياً على أعجمي ، و صنعت كما صنع رسول الله و أبو بكر"، ولكن أجله لم يمهله، عدا أن خلفه كان قد انتهج ذان المنهج المعوج، ليغيرا بذلك أعظم سنن رسول الإنسانية صلوات الله عليه وآله، ويهدما أهم بنيان للاقتصاد الإسلامي، بل والأعجب من كل ذلك، تأسيسهما لمنهجية خطيرة سيتعمدها خلفاء بنو العباس وبنو أمية فيما بعد. 
وما أن استلم الخليفة الوصي أمير المؤمنين علي عليه السلام زمام حكم البلاد الإسلامية، كحق سماوي لها، فضلا عن كونه مطلبا من قبل الجماهير المسلمة، صار عمله وفقا للسنة النبوية الشريفة، فراح عليه السلام يعيد ما أندثر من سنة كفالة المسلمين من بيت المال، بتقسيم فيئه عليهم بالتساوي، ومنع كل أوجه التمايز الطبقي أيا كان سببه، من خلال اشهار برنامجه الحكومي على رؤوس الأشهاد، وأهم بنوده كانت: "العدل في الرعية و تقسيم المال بالسوية"، خصوصا وانه راي بأن إعادة شرع الله وسنة نبيه بحسن كفالة عيال الله هي أهم ما يميز الإسلام عن غيره، بل ويعظم عند الناس عدله، باعتبار أن توزيع العطايا بشكل عادل ومنطقي تشكل أهم ملامح نجاح أي نظام سياسي وديني، بل وتشكل نقطة شروع الفرد بأيمانه بهذا النظام.
والحق يقال، إن هكذا خطوة من الخليفة الشرعي لرسول الله صلوات الله عليهما لم تكن سهلة، باعتبار أن من سبقه كان قد أوغل بصناعة ثقافة التمايز، وهو ما شكل ردة فعل غير متوقعة من المنتفعين من السياسات السابقة، وكان رده الحكيم في كل الأوقات: " أ لم يكن رسول الله يقسم بين المسلمين بالسوية ؟!". 
بل وأمعن في تحقيق العدالة المجتمعية في مشاهد ومواقف شتى، حتى قال عليه السلام ـ في مورد حديثه مع أخيه عقيل بن أبي طالب الذي أراد منه تمييزا عن غيره، بداعي صلته معه ـ قال: "ما أنا وأنت فيه ـ يعني في بيت المال وبالعطاء ـ إلا بمنزلة رجلين من المسلمين"، كما أنه رد عتبى من عاتبه في المساواة بينهم وبين عوام الناس، قائلا: "أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، ولو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خدين وألام خليل".
كما يذكر أهل الـتاريخ، أن امرأتين إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، كانتا قد اقتسمتا حقوقهما من بيت المال، فأعطى كل واحدة منهما خمسة وعشرين درهما، وعطف لك بكر من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه من العجم! فقال عليه السلام: "والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق".
وبذلك، فقد سطّر أمير المؤمنين عليه السلام قوانين عدالته، بناء على ما أسسه له النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله يوم كان قائدا للمسلمين، قبل أن تُشق بينهم عصار الوحدة وينحرفوا عن جادة رسولهم صلوات الله عليه وآله، ولولا الإمام علي عليه السلام وعهده الراشد وحكمه الرشيد لضاعت هذه السنة العظيمة، ومحيت من الشريعة الإسلامية مطلقا، ولما عرفنا اليوم أنها أعظم سابقة اقتصادية في حقوق الإنسان مما سبق بها الإسلام غيره من النظم والتشريعات.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م