30 ربيع الاول 1446 هـ   4 تشرين الأول 2024 مـ 5:59 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

 | تأريخ الإسلام |  من اغتال هؤلاء ؟ الجن أم الإنس ؟
2021-11-20   1591

من اغتال هؤلاء ؟ الجن أم الإنس ؟

بين أيدينا أربع شخصيات تاريخية لعبت دوراً في التاريخ الإسلامي وكانت نهايتها واحدة وهي الاغتيال على أيدي السلطة، ولكن بما أن هذه الشخصيات كانت مؤثرة في مجتمعها وذات مكانة اجتماعية بين قبائلها، فقد استدعى الأمر أن يكون اغتيالها على أيدي الجن...!! نعم الجن، فهكذا تلعب السياسة دورها في تشويه الحقائق وتمرير أفعال القتلة والمجرمين على العقول الساذجة.
الشخصية الأولى: طالب بن أبي طالب
أكبر أولاد أبي طالب عم الرسول (ص)، والأخ الأكبر للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وأول مولود يولد بين هاشميين. ورغم أن التاريخ لم يذكر عنه سوى النزر اليسير وتحاشى الكثير من المؤرخين والمعنيين السير والخوض في سيرته، إلاّ أننا نجد ملامح تلك الشخصية من خلال هذا النزر وما وصف بيته الطاهر. 
ونستشف من قول الإمام علي عليه السلام في حديثه عن أبيه على بعض هذه الملامح من خلال قوله عليه السلام: (رحم الله أبا طالب لو ولد الناس كلهم لولدوا شجعانا)، فالشجاعة إحدى مميزات هذه الشخصية، ولا يشك أحد في أن بني هاشم هم أشجع العرب وطالب من لبّتهم، هذا فضلاً عن المميّزات الأخرى والفضائل الجمة التي تحلّى بها هذا البيت الشريف.
كان طالب من ضمن المحصورين في شعب أبي طالب وكان ذا إثرة عند أبيه ويدلنا على ذلك قول أبي طالب عند ما جاء إليه النبي وعمه العباس بن عبد المطلب ليخففوا عنه: اتركا لي عقيلاً وطالباً واصنعا ما شئتما. 
كما كان أبو طالب يؤكد في وصيته لطالب على نصرة الرسول والذبّ عنه ومن ذلك قوله:
أبنيَّ طالب إن شيخكَ ناصحٌ *** فيما يقول مسددٌ لكَ راتقُ
فاضربْ بسيفِكَ من أرادَ مساته *** أبداً وإنّكَ للمنيةِ ذائقُ
هذا رجائي فيكَ بعد منيَّتي *** وأنا عليكَ بكلِّ رشدٍ واثقُ
وهذا الشعر يدلنا على أهلية المُوصى وإيمانه بما جاء في الوصية وتجسيده له قولاً وفعلاً وهذا ما صرّح عنه طالب في شعره الذي أعلن فيه إيمانه المطلق بالرسول والاقرار برسالته، يقول طالب في مدح الرسول:
إذا قيلَ مَن خيرُ هذا الورى *** قبيلاً وأكرمهم أسرة
لقد حلّ مجد بني هاشم *** مكان النعائم والنشرة
وخير بني هاشم أحمد *** رسول الإله على فترة
ولا نريد ان نشطّ عن الموضوع كثيراً في ذكرِ تفاصيل حياة طالب ومواقفه إلاّ بقدر تعلّق هذه التفاصيل والمواقف بأسباب اغتياله. 
في السنة الثانية للهجرة الشريفة تنتهي حياة هذه الشخصية بخاتمة غامضة زادها اختلاف المؤرخين فيها غموضاً. 
ففي معركة بدر أكرهت قريش عدداً من بني هاشم ممن كانوا بمكة على الخروج معها وكان من ضمنهم طالب بن أبي طالب فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه يومئذٍ: (إني قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقيَ منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله). كما دعا الرسول (ص) يومها أن ينجّي الله المستضعفين من المؤمنين وقد جاهر طالب بموقفه من هذه الحرب ولم يخفِ إيمانه بالرسول على قريش وأظهر ميله إلى معسكر الرسول فكان بينه وبين بعض قريش محاورة. 
وتتجلى ماهية هذه المحاورة في قول قريش لطالب (والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمعَ محمد) أما البيتان اللذان قالهما طالب في تلك المعركة فهما لا يدعان مجالاً للشك على إيمان طالب وولائه للرسول وكرهه الخروج مع قريش وهذان البيتان هما:
يا ربِّ إمّا خرجوا بطالب *** في مقنبٍ من هذهِ المقانب
فليكنِ المسلوبُ غير السالب *** وليكنِ المغلوب غير الغالب
وقد تطيّرت قريش من هذين البيتين وتوجّسوا الشر واستشعروا الهزيمة فقالوا: (إن هذا ليغلبنا فردّوه). 
إلى هنا ينتهي المؤرخون في سرد أحداث حياة طالب ليبدأ التخبط والاضطراب عندهم حول مصيره بعد معركة بدر. 
فمن المؤكد أنه لم يقاتل فيُقتل أو يُؤسر في تلك المعركة ولم يكن لا من بين القتلى ولا بين الجرحى، إذن فأين ذهب...؟!
لنلقي هذا السؤال على المؤرخين ولنسمع إلى أجوبتهم:
الجواب الأول: أنه ـ أي طالب ـ رجع إلى مكة مع من رجع ...، ولكن ماذا بعد ذلك ؟ يتوقف الحديث. فالتاريخ لا يذكر عنه شيئاً بعد معركة بدر، ومن المؤكد أن شخصية مثل طالب ــ وقد عرضنا بعض خصائصها ــ سيكون لها دور كبير في نشر الإسلام ورفد الدعوة، بعد أن عرفنا ولاءه ومواقفه، ولكن التاريخ يتوقف في حياته عند معركة بدر.
الجواب الثاني: ويأتي أكثر من الأول غموضاً فيقول: بأنه لم يرجع إلى أهله أو فُقد ولم يعرف له خبر...! وهذا ما لا يعقل، لأن شخصية طالب لم تكن شخصية انهزامية أمام الأحداث مهما كانت صعوبتها وقد كان أحد المحصورين في الشعب وهذا ما يؤكد ثباته وعزمه أمام الصعوبات التي يواجهها.
الجواب الثالث: إنه انتحر غرقا...! وهذا أيضاً ما لا ينطبق على شخصيته، فلم يكن هناك مما يشين طالباً بعد قول النبي (ص) في حقه وحق من أُخرِجوا كرهاً وبعد موقفه المبدئي الولائي للرسول (ص) ومعارضته في القول لقريش.
الجواب الرابع: ويأتي حول مصيره ليكشف عن كل هذه الملابسات والغموض. 
تقول هذه الرواية: بأن الجن اختطفته!! ولم تحدد هذه الرواية ماهية الجن والصورة التي جاؤوا بها وأسباب الاختطاف! ولو استنطقنا التاريخ سيُماط اللثام عن الحقائق، فالمختطفون او بالأحرى المغتالون هم من جن الإنس! 
لنرجع إلى ما بعد معركة بدر، ففي هذه المعركة قُتل رؤوس الكفر وكان أغلبهم من بني أمية فأصبح أبو سفيان بعد هذه الغزوة زعيم المشركين في مكة وسيدهم المطاع، وقد قُتل ابنه حنظلة وصهره الوليد ووالد زوجته عتبة والعديد من أقربائه وأصحابه، فمن الطبيعي أن يدرك ثأره بقتل واحد من بني هاشم خاصة إذا كان من أقرباء الرسول أو ابن عمه، وأظن أن القارئ قد تبيّن أسباب الاغتيال خاصة أن طالباً قد عرف موقفه المعارض تجاه قريش وإيمانه بالرسول. 
ثم ان الصراع بين بني أُمية وبني هاشم موغل في القدم وقد اشتدت ضراوته عند مجيء الإسلام فزاد حقد الأمويين وحسدهم وبغضهم للهاشميين حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام عندما سُئل عن هذا النزاع: (بنو أمية أغدر، وأمكر، وأنكر، ونحن أصبح، وأنصح، وأفصح).
الشخصية الثانية: سعد بن عبادة الأنصاري
زعيم الخزرج، وكان نقيباً شهد العقبة وبدراً، وجيهاً في قومه وله سيادة ورئاسة، ولا يسعنا الحديث عن تفاصيل حياته فهي متوفرة في كل كتب السير والتاريخ، وسنتناول فقط أسباب اِغتياله. 
أثبت كل من تناول حياته من المؤرخين أنه كان ممن تخلّف عن بيعة السقيفة وله كلام كثير أكد معارضته لها نقلته كتب التاريخ والسير، ثم خرج سعد مغاضباً من المدينة إلى الشام وحلف أن لا يبقى في المدينة وأبو بكر خليفة فيها، فقُتل بحوران سنة 15 هـ ووجد ميتاً في مغتسله! 
وهنا يأتي دور المؤرخين لتبرئة ساحة الأنس من اغتياله ليحوّلوا التهمة الى ساحة الجن! ويعززّوا التهمة باعتراف الجن بقتله فرووا أنه: لم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
و رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده
ونسبوا هذين البيتين إلى الجن. ويأتي بعض المؤرخين ليضع سبباً لقتله ليموّه عن السبب الأساس في قتله فيقول: إنه كان يبول واقفا!! اسمع واعجب...! ونكتفي بهذا المقدار في الحديث عن هذه الشخصية وسبب اغتيالها ومن أراد التوسع فليراجع المصادر.
الشخصية الثالثة: عمرو بن الحمق الخزاعي
صحابي جليل ومن خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقد شهد معه حروبه كلها وبشّره رسول الله بالجنة ودعا له.
كان عمرو من أشد المعارضين لسياسة معاوية والمنكرين لأعماله وجرائمه. ويروي له التاريخ في ذلك قصصاً كثيرة جداً ومواقف بطولية خالدة وقف فيها مدافعاً عن مبادئ الإسلام ومقارعة الانحراف الأموي. فلاحقته السلطات الأموية، فهرب من الكوفة حتى نزل قرب الموصل فقبض عليه وقتل. 
وبما أنه كان شخصية وجيهة ومن الصحابة الكبار فقد كفى الوضّاعون معاوية هياج الرأي العام ضده، فأشركوا الجن مع الإنس أيضاً في قتله، وهذه المرة كانت الجن في صورة حية!! ويأتي الاضطراب في الروايات في قتله ليكشف عن التناقض في هذه القصة المخترعة. 
الرواية الأولى: تقول إن عمراً فرّ مع صاحب له يدعى رفاعة فأخذ عمرو يوصيه عندما أحسّ بالطلب فقال له: إن رسول الله أخبره أن الإنس والجن تشترك في دمه، فقال رفاعة فما أتم حديثه حتى رأيت أعنة الخيل فودعته وواثبته حيّة فلسعته وادركوه فاحتزوا رأسه. 
أما الرواية الثانية فيكون فيها صاحب عمرو رجلاً آخر اسمه زاهر مكان رفاعة، فلما نزلا الوادي نهشت عمرواً حية من جوف الليل فأصبح منتفخاً فأخبر زاهر نفس الحديث وزاد عليه ــ او بالأحرى زاد واضع الرواية عليه ــ كلاماً لا يخفى على القارئ، وهو أن الرواية تريد أن تقول إن قتل عمرو كان رحمة له وهو يعاني من السمّ وقد انتفخ جسده وهو يعاني الليل كله فأضافت على لسان عمرو: ولابد لي من أن أقتل فقد أصابتني بلية الجن بهذا الوادي. 
وفي هذا الحديث معنى غير مباشر وضعه مخترع الرواية يفيد أن هذه البلوى التي أصابت عمرواً كانت عقوبة له جرّاء معارضته السلطة الأموية فكأنه يريد أن يعطيها شرعية.
لنرجع إلى التناقض في هاتين الروايتين فالرواية الأولى تقول إن الحية واثبته وقد أدركته الخيل وهذا ما لا يمكن، أما الثانية فتقول إن الحية لدغته في اليوم السابق لقتله ولو كان ذلك فإنه ـ إن صحّت الرواية ـ لن يصمد طويلاً وقد بقي يومه وليلته يعاني من أثر السم، ولكانوا تركوه يموت وحده وحمّلوا تبعة قتله الحية وحدها ولم يشاركوها في قتله، ثم إن هذه الرواية تؤكد على الروح الجاهلية عند الأمويين وعقائدها الفاسدة والتي لم تفارقهم حتى بعد مجيء الإسلام فقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد إن صورة الجن لم تكن محددة بهيئة واحدة فمن الجن على صورة حيوان شاذ كالغول والسعلاة، أو غير شاذ أيضاً كالحية أو الناقة فضلاً عن ادعائهم إنها تمتلك قوى خارقة فجاء القرآن الكريم ليؤكد إن الحية ليست من جنس الجن وإنما هي حيوان زاحف كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ.
الشخصية الرابعة مالك بن الريب 
وهو الضحية الرابعة للسياسة الظالمة التي لم تكتف بسلب حياته فقط، بل سلبته سمعته وشوّهت سيرته وألصقت بها ما ليس فيه، فأشاعت بأنه كان من اللصوص والفتّاك وقطاع الطرق! وهذا مدعاة للضحك حين يُتهم رجل دلت الحقائق التاريخية على نبله وشرفه وأخلاقه من قبل سلطة معاوية التي تضمّ أبشع مجرمي التاريخ ممن لا يحصى قتلاهم وضحاياهم من الأبرياء والنساء والشيوخ والأطفال.
عايش مالك أقسى الفترات التي مرّت بالتاريخ الإسلامي وهي فترة معاوية بن أبي سفيان، فكان يرى استئثار الأمويين وأتباعهم بالأموال وعيشهم حياة الترف والبذخ في حين كان يقبع الشعب تحت وطأة الجوع والفقر والفاقة والذل وقمع الحريات.
في ذلك الجو العاج بالظلم والقهر نشأ مالك بطلاً أبياً جميلاً (من أجمل العرب جمالاً وأبينهم بياناً) وكأنه أختير لمرحلة يكون فيها معبراً باسم الشعب عن فداحة الظلم الذي يعانيه، كما يظهر الأبطال والمصلحون في مراحل التاريخ لتكون لهم يد وبصمة على مجريات الأحداث ويطالبوا بالعدالة والمساواة وينددوا بظلم المستكبرين، فهم يشكلون في التاريخ نقاطاً مضيئة وبوارق أمل لشعبهم من أجل التحرّر من نير العبودية ويزرعوا فيهم صوتاً للحرية والمطالبة بالحقوق المغتصبة.
ثار مالك على غطرسة معاوية وسياسته الجائرة وثار معه من بني قومه أكثر من ثلاثين رجلاً لمواجهة سياسة الظلم والاستبداد والتسلط، فأشاح المؤرخون بوجوههم عن كل الأوضاع المزرية التي كان يعيشها المسلمون من جوع وقهر وتربصوا لمن يرفع صوته مطالباً بالعدالة ليتهموه باللصوصية وقطع الطرق فوصفوا انتفاضة مالك بن الريب بما نصه: (تزعّم طائفة من اللصوص متخذاً منهم فئة تمارس نشاطاً اتفقوا عليه وخضعوا لنظامه واندفعوا في تحقيق رغباتهم من خلال هذا النشاط). 
وقد انتشر خبر السلطة كالنار في الهشيم وتناقل الناس أخبارهم، وتجنبوا المرور في طرقاتهم ...,
أقلق مالك وجماعته على قلتهم الدولة الأموية حيث تعالت أصوات مالك وأشعاره وهي تندّد بسياسة معاوية وتفضح أساليب ولاته في البلاد، فأمر مروان بن الحكم الوالي على المدينة من قبل معاوية بالقبض عليهم فهربوا، فكتب إلى الحارث بن حاطب الجمحي مساعده على بني عمرو بن حنظلة بالقبض عليهم فهربوا منه، وبلغ مالك أن الحارث يهدِّده فرد عليه بقصيدة طويلة يستهين به وبتهديده فيها ما دام مؤمناً بقضيته كما يوضح فيها براءته من التهم المنسوبة إليه وإن هدفه الأوحد هو العدالة
لقد عبّر مالك بن الريب عن ألمه وألم المسلمين في شعره وطالب الولاة بالعدل بين الناس والالتزام بالحق ولم يقبع تحت خوف السوط والسيف رغم بطش السلطة، بل كان يندّد ويجاهر بالرفض وينتقد سياسة معاوية الجائرة، فقبض والي مكة على مالك فحبسه وعذبه عذاباً شديداً، وبقي في الحبس مدة طويلة حتى استشفِع له فأطلق سراحه.
انتهت حياة مالك وانطوت صفحة مقارعته للسلطة الأموية في رحلته إلى خراسان والتي لم يعد بعدها إلى أهله أبداً، وتشير كل الدلائل على أن قصة ذهابه مع سعيد بن عثمان بن عفان إلى خراسان على أنها كانت مؤامرة مدبّرة ومقصودة من قبل معاوية الذي عُرف بمؤامراته الدنيئة وسياسته الخبيثة في الحد من خطر كل من يتهدد سلطته ثم القضاء عليه فبعث مالك إلى تلك البلاد البعيدة لكي لا تُثار بمقتله أي بلبلة.
فما سر استصحاب سعيد بن عثمان لمالك وهو مبعوث من قبل معاوية بجيش نظامي لغزو خراسان ومالك كما هو معروف لم يخضع للسلطة الأموية في يوم من الأيام فكيف سيخضع لسعيد والاعتراف بإمارته عليه وهو ذاهب إلى الحرب بل كان مالك يأنف أن يكون في جيش عليه قائد تافه وجبان مثل سعيد 
وتدلنا قصيدته البائية الباكية التي ودّع بها ابنته وهو ذاهب مع سعيد إلى أنه كان مُكرهاً في ذهابه يقول فيها:
ولقد قلتُ لابنتي وهي تبكي *** بدخيلِ الهمومِ قلباً كئيباً
وهي تذري من الدموعِ على الخدّينِ من لوعةٍ الـفـراقِ غـروبـا
عبراتٍ يكدنَ يجرحنَ مـا جـزنَ بـه أو يدعـنَ فـيه نـدوبـا
حذرَ الحتفِ أن يصيبَ أباهـا *** ويلاقي في غيرِ أهلٍ شعوبا
اسكتي قد حززتِ بالدمعِ قلبي *** طالما حزَّ دمعكنَّ القلـوبـا
فعسى الله أن يدفـعَ عـنّـي *** ريبَ ما تحذرينَ حتى أؤوبـا
ليس شيء يشاؤه ذو المعالـي *** بعزيزٍ عليه فادعي المجيبـا
ودعي أن تقطعي الآن قلبـي *** أو تريني في رحلتي تعذيبـا
فجو هذه القصيدة يوضح أمرين: 
الأول: هو أن مالك كان مجبراً على مرافقة سعيد من قبل السلطة. 
والثاني: يشير إلى أن مؤامرة دنيئة حيكت له من قبل معاوية 
ويؤكد حقيقة هذه المؤامرة هو أن أنه لِمَ لَمْ يأذن له سعيد بالعودة الى أهله عندما انتهى الغزو وظل يماطله ؟ فقد فتحت خراسان فما سبب بقاؤه فيها؟
تتضح من ذلك عدة أسباب منها حنق سعيد عليه وغضبه منه لهجائه إياه وتوصية معاوية له بأن يبقيه بعيداً عن البلاد العربية لكي لا يثير النفوس ضد السلطة الأموية بهجائه وانتقاده لسياستها، فظل مالك وهو ابن الصحراء الدافئة يعاني من شدّة البرد فلا يطيق زمهرير الثلوج بخراسان فترتعش أطرافه ويسأل سعيد العودة إلى دياره مراراً وتكراراً 
ولكن هذا الفراق لم يكتب له لقاء بعده، فقد قُتل مالك في ظروف غامضة وتعدّدت أقوال المؤرخين في موته لتنزّه السلطة الأموية المجرمة وتغسل يد معاوية من دماء مالك، ولكن لن يغسلها له التاريخ أبداً وستبقى ملوثة بدماء الأبرياء ولن تنطلي الأسباب الأسطورية في قتل مالك التي وضعها المؤرخون المزيفون على التاريخ الأجيال والتي أرادوا في وضعها دفع التهمة عن المجرم الحقيقي في قتل مالك وهو معاوية، ولنستمع إليها فهي مدعاة للضحك والبكاء معاً: 
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: (وقال مالك بن الريب يرثي نفسه، ويصف قبره وكان خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان لما ولي خراسان، فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه، فإذا بأفعى في داخلها فلسعته فلما أحس بالموت استلقى على قفاه ثم أنشأ يقول) وذكر قصيدته اليائية الطويلة!
هذا غاية ما توصّل إليه المؤرخون من الكذب فهلا سأل ابن عبد ربه عقله كيف لملدوغ من أفعى أن يصبر على المعاناة والألم ليقول مرثية يرثي بها نفسه تبلغ أكثر من ستين بيتاً ولا يذكر فيها سبب موته المزعوم وهو لدغة الأفعى؟ ثم أين الأفعى وسط جو يملؤه الثلوج كما وصفه مالك بقوله:
فارحلْ هُديتَ ولا تجعلْ غنيمتنا *** ثلجاً تصفّقه بالترمذِ الريحُ!!
ويقول الأصفهاني الأموي النزعة في الأغاني: (مرض مالك بن الريب عند قفول سعيد بن عثمان من خراسان في طريقه فلما أشرف على الموت تخلف معه مرة الكاتب وآخر من قومه من بني تميم ومات في منزله ذلك فدفناه وقال قبل موته قصيدته هذه يرثي بها نفسه)!
وهذا القول أكذب والله من القول الأول فسعيد لم يبرح خراسان حتى مات مالك فيها ولو خرج منها مالك لكان ذكر ذلك في قصيدته التي رثى بها نفسه والتي يصف فيها جو خراسان البارد وطول مقامه فيها.
ويذكر أبو علي القالي في (الأمالي) عدة أسباب مختلقة لموت مالك منها إنه طعن وهو يغزو بخراسان طعنة أودت بحياته وهذا القول منافٍ للحقيقة تماماً فمالك ظل بعد الغزو مدة طويلة كما ذكر هو ذلك في شعره وكان يطلب من سعيد مراراً وتكراراً العودة.
وبلغ من ضحك عقول المؤرخين على عقولهم الخاوية أن نسب بعضهم القصيدة إلى الجن التي رثت مالك بهذه القصيدة الطويلة بعد أن رأت غربته ووحدته ووضعت الصحيفة التي منها القصيدة تحت رأسه!! كما ذكر ذلك القالي في نفس المصدر .. اسمع واعجب!!
هذه هي السياسة الأموية عندما تريد أن تغطي جرائمها والعجب أن لا يسأل القالي نفسه كيف يموت مالك وحيداً غريباً؟ ألم يكن مع جيش وفيه رجال من قومه فهل كانوا يتركونه يموت وحده؟
فسبب موته مدعاة تمحيص وتحقيق وبحث، فلا مجال للشك بأن هذه الأسباب الواهية المضحكة هي عملية تسكين ثائرة بني تميم على السلطة الأموية، بعد أن تم اغتياله غدراً ليبقى سر مقتله مجهولاُ في غياهب التاريخ.
ولعل فيما قدمناه ما يعطي صورة أكثر من إشارة إلى أن الأمويين كان لهم يد في قتله ليضاف اسمه إلى الأسماء الكثيرة التي تلطخت أيدي الأمويين بدمائها وليكون شاهداً تاريخياً أخر بدين السلطة الأموية بجرائمها.
أما قصيدة مالك بن الريب اليائية الشهيرة فتعد من عيون الشعر العربي وفيها حنين وألم وذكريات واعتبار وذم الاغتراب كما تضم أيضاً إشارات قوية إلى المؤامرة التي حيكت لقتله وهي واضحة لا تخفى على القارئ.
من كل ما مرّ يتضح لنا أن تزوير الحقائق وتنزيه الحكام من الجريمة والظلم والطغيان وغيرها من مهنة وعاظ السلاطين وأصحاب الأقلام المأجورة، ولها امتداد تاريخي يتصل بالعهد الأموي الذي تجسدت فيه كل قيم الجاهلية والظلامية مقابل نور الإسلام الذي أضاء للإنسان ــ ولايزال ــ طريق الحياة نحو التقدم والازدهار، ولذا نلاحظ سعي الحكام لتغييب المصلحين والثائرين عن الساحة الاجتماعية والسياسية، سواءً مادياً بتصفيتهم جسدياً أم بتشويه سمعتهم وقتلهم معنوياً.

محمد الطاهر الصفار

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م