25 جمادي الثاني 1446 هـ   26 كانون الأول 2024 مـ 12:00 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-04-29   1184

المُخلّص وحكومته العالمية العادلة

الإسلام دين دنيا، كما أنه دين وصول لما هو أسعد من الحياة الدنيا، وهو الآخرة، وبالتالي فهو دين آخروي أيضا.
وكون الإسلام دين دنيا ودين أخرة، يستلزم أن يوفق بين نظرته للأولى ونظرته للآخرة ـ على اختلاف كينونتهما وطبيعتهما ـ، ليخلق منهما بيئة مثالية لمرور الإنسان ـ عبر الدنيا ـ للآخرة، بسلام في عاقبته ومآله... هذا من جهة.
من جهة أخرى... على الرغم من أن المستقر الحقيقي للإنسان هو الآخرة، وهذا واضح بيّن، من طول فترة مكوثه فيها، مع قصر واضح لرحلته الدنيوية، إلا إن ذلك لم يمنع من أن تكون نظرته ـ الإسلام ـ للدنيا نظرة واقعة، تنسجم مع متطلبات الإنسان وضرورات حياته، وما هُيء له منها، ومنها بطبيعة الحال اعتبارها الطريق اللازم على الإنسان أن يسلكه كي يصل للآخرة، وهو ما يستوجب بالضرورة أن تكون للإسلام وجهة نظر مميزة حيال الآن البشري والمستقبل البشري (الدنيا والآخرة).
ولما كان الإسلام، الدين الخاتم، وكتابه الكتاب الأخير، والأشمل والأوسع، ونبيه الأكرم محمد صلوات الله عليه وآله، النبي الخاتم، صار الدور اللازم عليه ـ الإسلام ـ أن يؤسس لهذه الثنائية (الدنيا والآخرة)، بشكل شمولي جامع ومانع، وهو ما كان بالفعل من خلال قواعد كلية رسمها حيال ذلك، من خلال دستوره العلوي ـ القرآن الكريم ـ والقوانين والتعليمات التي دونه ـ الأحاديث العصموية ـ، حتى صار لدى المسلمين قواعد عامة ومجردة ومؤسسة يمكن أن يتبعونها كي يعيشون كلتا الحياتين (الدنيا والآخرة) بشكل كريم ينجم مع كرامة الإنسان عند خالقه.
ومن هذه القواعد الكلية ما يلي 
ـ الحكمة الإلهية في الإيجاد والخلق والإنشاء
((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ))(سورة ص ـ 27).
إن خلق الله للإنسان يحمل غايات حكيمة، كما أن مروره بأدوار خلقه هو الأخر عن حكمة نبيلة، من لدن حكيم قدير، وبالتالي فخلق هذه العوالم والأطوار تحمل أهداف محددة وليس خلقا عبثيا فوضويا، ومن ذلك مآل هذه العوالم وغاياتها وسبل مرورها من طور الى أخر.
ـ حتيمة وجود محكمة ألهية تحكم بين الناس
((رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))(سورة آل عمران ـ 9)
وجود محكمة الهية ضرورة ولازمة للعدل الإلهي، بخلافه، يكون الخلق عبثيا، وحاشا للخالق من ذلك، إذ بدون هذه المحكمة يصير الخلق الى الظلم، وهو ما لا ينسجم مع رحمة الخالق ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.....))(سورة الحديد ـ 25)، ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))(سورة الزلزلة ـ 6 ـ8)، لذا صارت الحكمة أن تعرض أعمال الخلق عليه في يوم القيامة، لينالوا جزاء ما فعلوا، ((أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى))(سورة القيامة ـ36)، ((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا  (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49))(سورة الكهف ـ 47 ـ49).  
ـ الإنسان هو خليفة الله وسيد خلقه
((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ))(سورة البقة ـ30)، ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ))(سورة التين ـ4)، ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا))(سورة الإسراء ـ70)، ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13))(سورة الجاثية ـ 12 ـ13).
الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وهو من حمل أمانته دون باقي خلق ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً))(الأحزاب ـ72)، وهو ما جعله سيد خلق الله سبحانه وتعالى، بدء من كونه الكائن المتعقل، وانتهاء بكونه أمام المساءلة الكبرى، على ما فعل، لذا صارت الضرورة الى أن يكرم هذا الخلق ـ الإنسان ـ بالخطاب الإلهي المنظم لحياته (الأديان السماوية)، باعتباره سيواجه مشاكل في حياته الدنيا (ابتلاءات الهية) ناتجة عن طبيعة خلقه ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا))(سورة الإنسان ـ3)، وبالتالي فإن ثمة تزاحم مصالح سيكون بين أناس سيختارون الشكران وأخرون يختارون الكفران، وهو ما تطلب ولادة الأنظمة الاجتماعية التي تهيء الأرضية الخصبة لعيش هذا الكائن، خصوصا وإن أعقد حالة يمكن ان تولد في تزاحم المصالح بين افراد بني أدم هو حب الرياسة بين الناس وتسيد أمرهم، وهو ما سينتج ما يسمى عصيرا بـ الأنظمة السياسية، كمطلب جوهري لحوكة الناس والفصل بينهم.
ومع تعقد المجتمعات، صارت الحاجة الى قوانين وتشريعات تنظم فعاليات افراد المجتمع، وتفصل بينهم إذا اقتضى الأمر، فضلا عن الحجة القصوى للقائد الذي يمكن ان يقود افراد المجتمع، على تنوع ميولهم ورغباتهم وتباين امزجتهم ومطالبهم.
وبعد تجربة طويلة من الحياة البشرية في انتخاب من يحكم الناس ويدبر شؤونهم، وتوالد سلالات الحكم الظالمة والمستبدة التي عاثت بالأرض فسادا، سواء ما كان منها ثيوقراطيا يحكم باسم الله جل شأنه عن ذلك، كحكم الدين ومنه الكنسية في اوربا مثلا، فضلا عن أنظمة سياسية قائمة لحد الآن واساسها الإيديولوجي هو دين الله، وهو منه براء، أو ديمقراطيا، كما كان يحصل في عهد الحكومات اليونانية قبل الاف السنوات، وأخرها ديمقراطية الزمن الحالي.
فضلا عن تنوع هذه التجارب بين من وصف نفسه بالإلهة، كما تحدثنا عن ذلك حكايا الأزمنة الغابرة، ومرورا بالملوك اباسم الله والحاكمين بالنيابة عنه، وانتهاء بالأنظمة الحالية من ملكية او جمهورية، ام أي شكلية أخرى يُحكم الناس بها اليوم، ويستعبدون من نخبة سياسية ليس لها عليهم سلطان غير الظلم والخداع.
ـ ضرورة وجود قادة صالحين لإدارة المجتمع البشري
((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ))(سورة القصص ـ5).
بعد أن ثبت باليقين، عدم شهودية المجتمعات البشرية لعدالة مطلقة، وشواهد ذلك لكثرة الصراعات البشرية، وتنافر أهدافها، واتساع رقعة الحروب فيها، أيدولوجية كانت أم اقتصادية أم فكرية، ما يعني عدم حظوة المجتمع البشري بالعالم المثالي، والحياة المثلى التي يريدها الله لخلقه، على صعيد الحكام والمحكومين، ومنه بطبيعة الحال عدم تحقق الهدف السامي من الخلق، على الرغم من الأرضيات المناسبة والمؤسسة لذلك مما قام به انبياء الله واصفياءه عليهم السلام في تهيئة المجتمع البشري لتحقيق العدالة والرفاهية، من خلال متوالية الأديان، التي كانت تؤسس لتفكير بشري جمعي صوب تحقيق العدالة الكبرى.
لذا، فأن المنطق يفرض رفض الطروحات الشرية ـ لقصورها من أدراك العدل الإلهي، فضلا عن فشلها في ذلك، كما يفرض ضرورة الإيمان بنظرية غير بشرية، من لدن عادل حكيم، خصوصا وإن هذه النظرية هي عين ما عمل عليه الإسلام، من خلال تأسيسه لنظرية الاستخلاف التي تتضمن ضرورة إقامة حكومة عالمية تسير البشرية وفقا لما يريده الله جل وعلا من فلسفة الخلق والإنشاء ـ عمارة الأرض واستخلافها ـ من خلال صفوة بشرية يقودها رجل ممن اختاره الله في هذا السبيل ليقود هذه الحكومة عن استطاعة وقدرة على إدارة دفتها، ((الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ))(سورة الحج ـ41)، بما يسمح له من مواجهة الظلم الذي يضرب اطناب الأرض، بل ويهيئ المزاج البشري لثقافة السلم والأمان العالمي، بعد أن يحرر العبيد من حكومات الطاغوت، ويحرر الناس من يأسهم وقنوطهم، ويوقف آلة الحرب وعراك المصالح بينهم، ويحقق القسط والعدل بين الجميع، كونه يمتلك سطوة أدبية وأخلاقية على الناس، تمكن له ولحكومته العالمية تحقيق نظرية العدل الإلهي في إسعاد البشرية باعتبار إن الإنسان هو صاحب المقام السامي عند الخالق سبحانه وتعالى، وتحقق سعادته وخير مصيره هو الهدف الإلهي من خلقه.
وهذا بالتحديد ما أسس له الإسلام ـ كدين دنيوي وآخروي ـ من خلال فكرة اليوم الموعود الذي يتحقق به ظهور الحاكم العالمي المهدي المنتظر عليه السلام ـ ظهورا وليس ولادة، حيث أنه موجود ولكنه غائب عن الأعين، وقد مرت عليه ما عاشته البشرية من ويلات وظلامات، يستطيع من خلاصتها ان يحكم العالم بعدالة تمسح عن جبين الأجيال البشرية كل آثار الوجع الذي عاشته ـ البقية الباقية من سلالة الأنبياء الذين عملوا على تنظيم وتصحيح مسير البشرية، حيث سيتمكن هذا المصلح من توحيد الإنسانية تحت رايته، كونه يحقق ما كانت تنتظره الأديان السماوية، وتأمله الطروحات البشرية أجمع في ولادة المجتمع الإنساني الأنموذج.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م