2022-07-11 3187
وجه الإعجاز في عصا كليم الله موسى عليه السلام
"فَأَلقاها فَإِذا هِيَ
حَيَّةٌ تَسعى"
عند العودة إلى الآيات التي تعلّقت بقصّة سيدنا موسى عليه وعلى نبيا وآله الصلاة والسلام، وخاصة الآيات التي صوّرت لنا تفاصيل المواجهة التي حصلت بين نبي الله موسى عليه السلام من جهة ، وبين سحرة فرعون من جهة أخر ى، سنجد أنّ المولى تعالى أخبرنا عن وقوع معجزة إلهية عبّر عنها ووصفها بكونها كبرى فقال: ((فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى))(النازعات ـ 20)، وكذلك نُسبت هذه المعجزة لنبيّ الله موسى عليه السلام، فجاء في القرآن الكريم : ((قالَ إِن كُنتَ جِئتَ بِآيَةٍ فَأتِ بِها إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقينَ ، فَأَلقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعبانٌ مُبينٌ))(الأعراف ـ106).
ولكن لو عدنا للآيات القرآنية الحاكية عن المواجهة في سور الأعراف وطه والشعراء، فقد لا نهتدي بسهولة إلى الفارق اللطيف بين ما قام به نبيّ الله موسى عليه السلام، وبين ما قام به السّحرة الذين واجهوه، والتي تَفْصِلُ بين ما جاء به موسى عليه السلام من إعجاز، وما جاء به السّحرة من سحر وتلاعب برؤية وتخيّلات النّاس، فنبيّ الله موسى عليه السلام ألقى عصاه فإذا بها حيّة تسعى، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى ((فَأَلقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسعى))(طه ـ20)، وكذلك فعل السحرة، فقد ألقوا عِصِيّهم وحبالهم فرآها النّاظر ـ ومنهم نبيّ الله موسى عليه السلام ـ على أنّها حيّة تسعى، وهذا ما أشار إليه المولى تعالى بقوله ((قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66).
وقد يقول أحدهم: أنّ وجه الإعجاز في عصا نبيّ الله موسى عليه السلام هو كونها تلقّفت وأكلت عصيّهم، مستندا في ذلك على قوله تعالى ((وَأَوحَينا إِلى موسى أَن أَلقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلقَفُ ما يَأفِكونَ))(الأعراف ـ117)، و قوله تعالى ((أَلقِ ما في يَمينِكَ تَلقَف ما صَنَعوا إِنَّما صَنَعوا كَيدُ ساحِرٍ وَلا يُفلِحُ السّاحِرُ حَيثُ أَتى))(طه ـ69)، وقوله تعالى ((فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ))(الشعراء ـ45)، فنجيب في المقام بالإيجاب، فنحن نسلم أنّ الإعجاز يكمن في تلقّف عصا نبيّ الله موسى عليه السلام لِعِصِيِّ وحِبَال السّحرة، ولكن تبقى حقيقة وماهية الإعجاز غير منكشفة ولا هي واضحة بعد التسليم، لوضوح أنّه سيتبادر في ذهن كل مستمع تساؤل آخر، مفاده: كيف يكون التلقّف إعجازًا؟
والحقّ في المقام، أنّه وعند البحث عن الجواب في تفاسير المسلمين بمختلف مذاهبهم، لم نجد من أجاب على هذا التساؤل، ولا من حاول الوقوف عند وجه الإعجاز في تلقّف عصا سيدنا موسى عليه السلام لحبال وعصيِّ السحرة، بحيث يكون هذا الوجه هو الفارق بين ما أتى به نبيّ الله موسى عليه السلام من اعجاز، وبين ما قام به سحرة فرعون من ممارسات سحريّة، خاصة وأنّه يمكن لكل مُشْكِل أن يُشكِل فيقول : إن كان وجه الإعجاز هو تلقّف عصا موسى عليه السلام، فمن قال أنّ عِصِيِّ السّحرة كانت عاجزة عن فعل ذلك إذا أرادوا هم فعله، خاصّة وأنّ القرآن الكريم سكت عن هذا الأمر ولم يتطرّق إليه.
وفي مقام الجواب نقول : أنّ وجه الاعجاز في تلقف عصا موسى عليه السلام لعصيي السحرة، يفهم عندما نتمكن من فهم ما قام به سحرة فرعون من ممارسات سحرية، والتي أشار إليها المولى تعالى بقوله ((قالَ أَلقوا فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاستَرهَبوهُم وَجاءوا بِسِحرٍ عَظيمٍ))(الأعراف ـ116).
فسِحْرُ الرُؤية - وكما هو معلوم عند من وجد سبيلا لمعرفته - الذي مارسه سَحَرَةُ فرعون، هو في حقيقة الأمر لا يمكنه أبدا ولو بشكل من الأشكال أنّ يغيّر حقائق الأشياء في الواقع الذي أمامنا، وإنّما كل ما يمكن فعله هو أن يتلاعب بعملية النظر لدى المتفرج وبالتحديد يتلاعب بقوّة التخيّل لدى النّاس، فيجعل الفرد يرى ما ليس موجودا في الواقع الخارجي، بحيث يجعل المتفرج يرى الإنسان الذي أمامه قد صار دجاجة، رغم أنّ الإنسان في الواقع الخارجي بقي إنسانا ولم يتغيّر لدجاجة، فالشيء الذي تغير بسبب ممارسة السّحر هو الصورة الذهنية للمتفرج، بحيث تمّ التلاعب بعملية الرؤية لديه، فصار يرى الإنسان دجاجة، وإلاّ فالإنسان في الواقع الخارجي بقي إنسانًا ولم يتغيّر لدجاجة، وبالدقّة فتغيّر الإنسان لدجاجة لم يحصل في الواقع الخارجي، بل حدث في الواقع الذهني والتخيُّلي لدى المتفرج ((فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66)، وذلك تبعًا للتلاعب بعملية الرؤية من خلال ممارسة السحر.
وعليه فسَحَرَة فرعون في حقيقة الأمر لم يتمكّنوا من تغيير عصيّهم وحِبَالهم إلى ثعابين وحَيَّات، بل بقيت في الواقع الخارجي عصيًّا وحبالاً، وما حصل هو أنّهم سحروا أعين الحاضرين وبالتبع لذلك تبدلت الصورة الذهنية لديهم، بحيث صاروا ومنهم سيدنا موسى عليه السلام يرون العصيّ والحبال ثعابين وحيّات تسعى، وهذا أشار إليه المولى تعالى بقوله ((..... فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ ....))(الأعراف ـ116) وكذلك بقوله تعالى ((قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66).
وبمّا أنّ عصيّهم وحبالهم في الواقع الخارجي بقيت على ما هي عليه، ولم تتغيّر لحيات، فلا يمكن بأي وجهٍ من الوجوه أن يترتب عليها أي أثر تكويني، من قبيل الأكل والشرب واللدغ والعض والتكاثر، والسبب في عدم امكان ذلك، هو كونها في الواقع الخارجي هي عِصِي وحبال لا أكثر، والعصي والحبال لا يمكنها فعل ذلك، وهذا الأمر يعرفه ويدركه السّحرة قبل غيرهم.
وبسبب إدراك ودراية سحرة فرعون بهذه الحقيقة، وهي حقيقة عدم إمكان ترتب أي أثر تكويني على عصيهم وحبالهم التي يَرَاهَا النّاس حيّات تسعى، هذه المعرفة هي التي دفعتهم ليكونوا أوّل من يؤمن ويسلَّم لنبيّ الله موسى عليه السلام، رغم أنّهم في موقع آخر من يؤمن، وذلك بسبب وقوفهم في موقع التحدي لنبيّ الله موسى عليه السلام من جهة، ولأجل الوعود المُغرية التي قدمها لهم فرعون من جهة أخرى، فقد وعدهم بالعطاء الجزيل وجعلهم في المكانة المقربة منه، وهذا ما أشار له المولى تعالى بقوله: ((قالوا إِنَّ لَنا لَأَجرًا إِن كُنّا نَحنُ الغالِبينَ (113) قالَ نَعَم وَإِنَّكُم لَمِنَ المُقَرَّبينَ(114))(الأعراف ـ113ـ114) ممّا حفّز في داخلهم ملكة الطمع .
فالسّحرة وبما لديهم من معارف حول السحر وحقيقة مداخله، يدركون أنّ سحر الرؤية لا يتجاوز دوره التلاعب بأنظار النّاس، وبالتالي فلا يمكن أن يترتب أي أثر تكويني على الشيء الواقع عليه سحر الرؤية، وعندما شاهدوا أنّ عصا نبيّ الله موسى عليه السلام - وبعد أن تبدّلت إلى ثعبان يسعى - ترتّب عليها أثرًا تكوينيًا، وهو أكلها لعصيّهم وحبالهم، في هذه اللحظة بالتحديد أدركوا حقيقة أنّ عصا سيدنا موسى عليه السلام، قد تغيرت وتبدّلت إلى ثعبان، لا فقط في الواقع الذهني للمتفرج، بل وحتّى في الواقع الخارجي ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ))(الأعراف ـ107)، وإلاّ فلا معنى لأن يترتب عليها أثرا تكوينيا .
فالحقيقة التي صدمت السحرة بحيث تبدّل موقفهم وموقعهم بالتبع لتبدّل قناعاتهم، رغم التهديدات الشنيعة لهم من قِبل فرعون ((قالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُم في جُذوعِ النَّخلِ وَلَتَعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبقى))(طه ـ71)، هي ترتب الأثر التكويني ـ التلقف والأكل ـ الذي صدر من ثعبان سيدنا موسى عليه السلام، فترتب الأثر التكويني ـ ولخبرة السحرة ومعرفتهم - كشف لهم بما لا يدع مجالا للشك، بأنّ تبدل العصا حدث حقيقة في الواقع الخارجي، لا أنّ التبدّل متوقف عن الواقع الذّهني والتخيّلي.
وبما أنّهم يدركون أيضًا أنّ حقيقة التبدّل أو التغيّر في الواقع الخارجي لا يمكن أن يحصل من خلال السحر الذي هو أقدر السُبل والطرق على فعل ذلك، وإنّما يقع ويتحقّق فقط وفقط من خلال المعجزة الإلهيّة، سلموا بكون ما حدث أمامهم هو معجزة إلهية حقيقيّة، قد أجراها المولى تعالى على يد نبيّه موسى عليه السلام، وهذا قادمهم أيضا إلى التسليم بكون تحقُّق مثل هذا الأمر على يد سيدنا موسى عليه السلام فيه دلالة واضحة على نبوة سيدنا موسى عليه السلام، فالمعاجز الإلهيّة لا تجري إلاّ على يد المبعوثين من قبل المولى تعالى.
وخلاصة كل ما تقدم هو: أنّ وجه الإعجاز في قصة سيدنا موسى عليه السلام حين واجه السحرة، ينكشف من خلال القول: أن ترتب الأثر التكويني وهو الأكل في قصة النبي موسى عليه السلام، يدلّل على أن عصا نبيّ الله موسى عليه السلام في تبدّلها، تبدّلت إلى ثعبان متصف بالحياة الواقعية، أي أنّه صار ثعبانًا حقيقي في الواقع الخارجي، ولو لم يكن قد تبدّل لثعبان ذا حياة في الخارج، لما أمكن أن يصدر منه الأكل الذي هو أثر تكويني يصدر فقط ـ وفقط ـ ممّن يتصف بالحياة حقيقةً.
وهذه الحقيقة هي ما يدركه سحرة فرعون، بالإضافة لإدراكهم أنّ تبدّل الجماد لحقيقة أخرى ذات حياة، لا يحصل حقيقة إلاّ من خلال المعجزة الإلهيّة التي هي عبارة عن تدخل إلهي مباشرة لتغيير القوانين، وهذه المعارف بالإضافة للصدمة من وقوع التبدّل الحقيقي في الواقع الخارجي، هما ما جعلاَ السحرة هم أول من يؤمن ويسلّم لنبيّ الله موسى عليه السلام، رغم أنّهم كانوا يتموضعون في موقع آخر من يؤمن ويسلّم، وكذلك رغم ما كان ينتظرهم من مصير مأساوي على يد فرعون وجلاوزته.
حبيب مقدم
عند العودة إلى الآيات التي تعلّقت بقصّة سيدنا موسى عليه وعلى نبيا وآله الصلاة والسلام، وخاصة الآيات التي صوّرت لنا تفاصيل المواجهة التي حصلت بين نبي الله موسى عليه السلام من جهة ، وبين سحرة فرعون من جهة أخر ى، سنجد أنّ المولى تعالى أخبرنا عن وقوع معجزة إلهية عبّر عنها ووصفها بكونها كبرى فقال: ((فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى))(النازعات ـ 20)، وكذلك نُسبت هذه المعجزة لنبيّ الله موسى عليه السلام، فجاء في القرآن الكريم : ((قالَ إِن كُنتَ جِئتَ بِآيَةٍ فَأتِ بِها إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقينَ ، فَأَلقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعبانٌ مُبينٌ))(الأعراف ـ106).
ولكن لو عدنا للآيات القرآنية الحاكية عن المواجهة في سور الأعراف وطه والشعراء، فقد لا نهتدي بسهولة إلى الفارق اللطيف بين ما قام به نبيّ الله موسى عليه السلام، وبين ما قام به السّحرة الذين واجهوه، والتي تَفْصِلُ بين ما جاء به موسى عليه السلام من إعجاز، وما جاء به السّحرة من سحر وتلاعب برؤية وتخيّلات النّاس، فنبيّ الله موسى عليه السلام ألقى عصاه فإذا بها حيّة تسعى، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى ((فَأَلقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسعى))(طه ـ20)، وكذلك فعل السحرة، فقد ألقوا عِصِيّهم وحبالهم فرآها النّاظر ـ ومنهم نبيّ الله موسى عليه السلام ـ على أنّها حيّة تسعى، وهذا ما أشار إليه المولى تعالى بقوله ((قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66).
وقد يقول أحدهم: أنّ وجه الإعجاز في عصا نبيّ الله موسى عليه السلام هو كونها تلقّفت وأكلت عصيّهم، مستندا في ذلك على قوله تعالى ((وَأَوحَينا إِلى موسى أَن أَلقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلقَفُ ما يَأفِكونَ))(الأعراف ـ117)، و قوله تعالى ((أَلقِ ما في يَمينِكَ تَلقَف ما صَنَعوا إِنَّما صَنَعوا كَيدُ ساحِرٍ وَلا يُفلِحُ السّاحِرُ حَيثُ أَتى))(طه ـ69)، وقوله تعالى ((فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ))(الشعراء ـ45)، فنجيب في المقام بالإيجاب، فنحن نسلم أنّ الإعجاز يكمن في تلقّف عصا نبيّ الله موسى عليه السلام لِعِصِيِّ وحِبَال السّحرة، ولكن تبقى حقيقة وماهية الإعجاز غير منكشفة ولا هي واضحة بعد التسليم، لوضوح أنّه سيتبادر في ذهن كل مستمع تساؤل آخر، مفاده: كيف يكون التلقّف إعجازًا؟
والحقّ في المقام، أنّه وعند البحث عن الجواب في تفاسير المسلمين بمختلف مذاهبهم، لم نجد من أجاب على هذا التساؤل، ولا من حاول الوقوف عند وجه الإعجاز في تلقّف عصا سيدنا موسى عليه السلام لحبال وعصيِّ السحرة، بحيث يكون هذا الوجه هو الفارق بين ما أتى به نبيّ الله موسى عليه السلام من اعجاز، وبين ما قام به سحرة فرعون من ممارسات سحريّة، خاصة وأنّه يمكن لكل مُشْكِل أن يُشكِل فيقول : إن كان وجه الإعجاز هو تلقّف عصا موسى عليه السلام، فمن قال أنّ عِصِيِّ السّحرة كانت عاجزة عن فعل ذلك إذا أرادوا هم فعله، خاصّة وأنّ القرآن الكريم سكت عن هذا الأمر ولم يتطرّق إليه.
وفي مقام الجواب نقول : أنّ وجه الاعجاز في تلقف عصا موسى عليه السلام لعصيي السحرة، يفهم عندما نتمكن من فهم ما قام به سحرة فرعون من ممارسات سحرية، والتي أشار إليها المولى تعالى بقوله ((قالَ أَلقوا فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاستَرهَبوهُم وَجاءوا بِسِحرٍ عَظيمٍ))(الأعراف ـ116).
فسِحْرُ الرُؤية - وكما هو معلوم عند من وجد سبيلا لمعرفته - الذي مارسه سَحَرَةُ فرعون، هو في حقيقة الأمر لا يمكنه أبدا ولو بشكل من الأشكال أنّ يغيّر حقائق الأشياء في الواقع الذي أمامنا، وإنّما كل ما يمكن فعله هو أن يتلاعب بعملية النظر لدى المتفرج وبالتحديد يتلاعب بقوّة التخيّل لدى النّاس، فيجعل الفرد يرى ما ليس موجودا في الواقع الخارجي، بحيث يجعل المتفرج يرى الإنسان الذي أمامه قد صار دجاجة، رغم أنّ الإنسان في الواقع الخارجي بقي إنسانا ولم يتغيّر لدجاجة، فالشيء الذي تغير بسبب ممارسة السّحر هو الصورة الذهنية للمتفرج، بحيث تمّ التلاعب بعملية الرؤية لديه، فصار يرى الإنسان دجاجة، وإلاّ فالإنسان في الواقع الخارجي بقي إنسانًا ولم يتغيّر لدجاجة، وبالدقّة فتغيّر الإنسان لدجاجة لم يحصل في الواقع الخارجي، بل حدث في الواقع الذهني والتخيُّلي لدى المتفرج ((فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66)، وذلك تبعًا للتلاعب بعملية الرؤية من خلال ممارسة السحر.
وعليه فسَحَرَة فرعون في حقيقة الأمر لم يتمكّنوا من تغيير عصيّهم وحِبَالهم إلى ثعابين وحَيَّات، بل بقيت في الواقع الخارجي عصيًّا وحبالاً، وما حصل هو أنّهم سحروا أعين الحاضرين وبالتبع لذلك تبدلت الصورة الذهنية لديهم، بحيث صاروا ومنهم سيدنا موسى عليه السلام يرون العصيّ والحبال ثعابين وحيّات تسعى، وهذا أشار إليه المولى تعالى بقوله ((..... فَلَمّا أَلقَوا سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ ....))(الأعراف ـ116) وكذلك بقوله تعالى ((قالَ بَل أَلقوا فَإِذا حِبالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّها تَسعى))(طه ـ66).
وبمّا أنّ عصيّهم وحبالهم في الواقع الخارجي بقيت على ما هي عليه، ولم تتغيّر لحيات، فلا يمكن بأي وجهٍ من الوجوه أن يترتب عليها أي أثر تكويني، من قبيل الأكل والشرب واللدغ والعض والتكاثر، والسبب في عدم امكان ذلك، هو كونها في الواقع الخارجي هي عِصِي وحبال لا أكثر، والعصي والحبال لا يمكنها فعل ذلك، وهذا الأمر يعرفه ويدركه السّحرة قبل غيرهم.
وبسبب إدراك ودراية سحرة فرعون بهذه الحقيقة، وهي حقيقة عدم إمكان ترتب أي أثر تكويني على عصيهم وحبالهم التي يَرَاهَا النّاس حيّات تسعى، هذه المعرفة هي التي دفعتهم ليكونوا أوّل من يؤمن ويسلَّم لنبيّ الله موسى عليه السلام، رغم أنّهم في موقع آخر من يؤمن، وذلك بسبب وقوفهم في موقع التحدي لنبيّ الله موسى عليه السلام من جهة، ولأجل الوعود المُغرية التي قدمها لهم فرعون من جهة أخرى، فقد وعدهم بالعطاء الجزيل وجعلهم في المكانة المقربة منه، وهذا ما أشار له المولى تعالى بقوله: ((قالوا إِنَّ لَنا لَأَجرًا إِن كُنّا نَحنُ الغالِبينَ (113) قالَ نَعَم وَإِنَّكُم لَمِنَ المُقَرَّبينَ(114))(الأعراف ـ113ـ114) ممّا حفّز في داخلهم ملكة الطمع .
فالسّحرة وبما لديهم من معارف حول السحر وحقيقة مداخله، يدركون أنّ سحر الرؤية لا يتجاوز دوره التلاعب بأنظار النّاس، وبالتالي فلا يمكن أن يترتب أي أثر تكويني على الشيء الواقع عليه سحر الرؤية، وعندما شاهدوا أنّ عصا نبيّ الله موسى عليه السلام - وبعد أن تبدّلت إلى ثعبان يسعى - ترتّب عليها أثرًا تكوينيًا، وهو أكلها لعصيّهم وحبالهم، في هذه اللحظة بالتحديد أدركوا حقيقة أنّ عصا سيدنا موسى عليه السلام، قد تغيرت وتبدّلت إلى ثعبان، لا فقط في الواقع الذهني للمتفرج، بل وحتّى في الواقع الخارجي ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ))(الأعراف ـ107)، وإلاّ فلا معنى لأن يترتب عليها أثرا تكوينيا .
فالحقيقة التي صدمت السحرة بحيث تبدّل موقفهم وموقعهم بالتبع لتبدّل قناعاتهم، رغم التهديدات الشنيعة لهم من قِبل فرعون ((قالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُم في جُذوعِ النَّخلِ وَلَتَعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبقى))(طه ـ71)، هي ترتب الأثر التكويني ـ التلقف والأكل ـ الذي صدر من ثعبان سيدنا موسى عليه السلام، فترتب الأثر التكويني ـ ولخبرة السحرة ومعرفتهم - كشف لهم بما لا يدع مجالا للشك، بأنّ تبدل العصا حدث حقيقة في الواقع الخارجي، لا أنّ التبدّل متوقف عن الواقع الذّهني والتخيّلي.
وبما أنّهم يدركون أيضًا أنّ حقيقة التبدّل أو التغيّر في الواقع الخارجي لا يمكن أن يحصل من خلال السحر الذي هو أقدر السُبل والطرق على فعل ذلك، وإنّما يقع ويتحقّق فقط وفقط من خلال المعجزة الإلهيّة، سلموا بكون ما حدث أمامهم هو معجزة إلهية حقيقيّة، قد أجراها المولى تعالى على يد نبيّه موسى عليه السلام، وهذا قادمهم أيضا إلى التسليم بكون تحقُّق مثل هذا الأمر على يد سيدنا موسى عليه السلام فيه دلالة واضحة على نبوة سيدنا موسى عليه السلام، فالمعاجز الإلهيّة لا تجري إلاّ على يد المبعوثين من قبل المولى تعالى.
وخلاصة كل ما تقدم هو: أنّ وجه الإعجاز في قصة سيدنا موسى عليه السلام حين واجه السحرة، ينكشف من خلال القول: أن ترتب الأثر التكويني وهو الأكل في قصة النبي موسى عليه السلام، يدلّل على أن عصا نبيّ الله موسى عليه السلام في تبدّلها، تبدّلت إلى ثعبان متصف بالحياة الواقعية، أي أنّه صار ثعبانًا حقيقي في الواقع الخارجي، ولو لم يكن قد تبدّل لثعبان ذا حياة في الخارج، لما أمكن أن يصدر منه الأكل الذي هو أثر تكويني يصدر فقط ـ وفقط ـ ممّن يتصف بالحياة حقيقةً.
وهذه الحقيقة هي ما يدركه سحرة فرعون، بالإضافة لإدراكهم أنّ تبدّل الجماد لحقيقة أخرى ذات حياة، لا يحصل حقيقة إلاّ من خلال المعجزة الإلهيّة التي هي عبارة عن تدخل إلهي مباشرة لتغيير القوانين، وهذه المعارف بالإضافة للصدمة من وقوع التبدّل الحقيقي في الواقع الخارجي، هما ما جعلاَ السحرة هم أول من يؤمن ويسلّم لنبيّ الله موسى عليه السلام، رغم أنّهم كانوا يتموضعون في موقع آخر من يؤمن ويسلّم، وكذلك رغم ما كان ينتظرهم من مصير مأساوي على يد فرعون وجلاوزته.
حبيب مقدم
الأكثر قراءة
25879
18683
13876
10739