19 جمادي الاول 1446 هـ   21 تشرين الثاني 2024 مـ 7:09 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-07-04   917

تتمة وتكامل وليس تضادا وتقابلا... قراءة في علاقة العقل بالنص الديني في قبول الحقيقة

أقحم أصحاب المأرب والغايات ممن يحسب نفسه على حركات التنوير والحداثة، العلاقة بين النص الديني ـ كمسلمة تأريخية ـ والعقل ـ كباحث عن الحقيقة باستفهامات متنوعة لكل مرحلة ـ في متاهات ودهاليز، بعد أن وسموها ـ العلاقة ـ بانها علاقة تضاد والتنافر، ايمانا منهم بأن النص الدين ـ مهما كان ـ إنما هو اسطورة كُتبت لتذويب خوف الإنسان البدائي يوما كان يجهل كل شيء في الطبيعة، في حين يرون إن العقل لا يقبل هذه "الأساطير" بعد إن صار قادرا على فهم الطبيعة ومعالجة مخاوفه منها.
وقد تجاذب هذه العلاقة اتجاهات أخرى غير ما ذكرنا، وإن كانت معظمها تؤمن بتباين مفهومي النص الديني والعقل بل وتناقضهما، كشرق وغرب، بمعنى أن النص الديني لا يقبل العقلنة كونه وليد مشاعر الخوف او هواجس الحاجة! لأن الدين ـ حسب وجهة نظر بعض هؤلاء، إنما هو مشاعر باطنية اضطر الإنسان فألبسها ثوب القدسية وجرها للتفكير الجمعي وصيرها ضرورة ـ في حين غالى أصحاب نظرية النص الديني، على قدسيته ـ أي كان ـ وبدون فحص ولا تمحيص، ايمانا منهم بأن الأجيال السابقة كانت أكثر ثقة من هذه الأجيال، كما ان العقل البدائي للمجموع الإنساني في حينها ـ فترة انتشار مفهوم الدين ـ كان غير مؤهل لسبر غور الكون واحداثه، وبالتالي فأنه تناقلها ـ الأجيال ـ لهذه النصوص من الموثوقية بما لا يحتاج للفحص والاختبار، متعبدين بكل ما أحتوى ـ حديثنا هنا عن الأديان السماوية وجزء من الوضعية على علاته ـ ، وبين هذا وذاك، ظهر لنا الطابور الوسطي، الذي راح يعقلن النص ويعرضه على الممكن واللا ممكن بحثا منه على الحقيقة وحسب، ولعمري فقد أفلح هذا الخط الحداثوي في فهم الدين وقولبته بالعقل.
وما يهمنا القول هنا، هو أن قبول النص على علاته خصوصا ما يؤكد أصحابه بأنه متناقل عبر متسلسلة الزمن، وربما تعددت أوجه بعضه ـ كما يحدث ذلك في بعض الكتب السماوية ـ أمر فيه مجانبة للصواب، خصوصا إذا ما احتوت هذه النصوص تعارض جليا، مع التأكيد بأن هذا التعارض مرده أمرين اثنين، إما أن النص الديني قد مسه التحريف والتزوير، أو أنه ليس بنص ديني أصلا، والأصل في ذلك أن الديانات السماوية الثلاث بدرجة من التوافق ما يجزم للمُطّلع عليها من وحدة مصدرها وغايتها.
كما أن عقلنة الغيبيات ـ الكثير من النصوص الدينية تخبر عن غيبيات كثيرة كالجنة والنار والعذاب والنعيم والبرزخ ـ هو الأخر ضرب من خيال! فليس كل ما في الحياة قابل للإثبات المادي وفقا لقانون الإمكان البشري، باعتبار إن العقل البشري هو الأخر لم يسعه أن يدرك كل الحقيقة، فضلا عن كون مسيرته الكلي عبر تناقل العلوم أجيالا عن أجيال ينبئ بتكامل المنظومة العقلية للإنسان كنوع وبالتالي ترقيه وصولا للإنسان المثال الذي يصطلح عليه الدين اصطلاح الإنسان الخليفة.
وبالتالي فأن ثمة تمايز بين هذين الاتجاهين، والصواب فيهما هو المنهج الوسطي في تحقيق (من إثبات احقية النص وحقيقته) النص الديني بالعقلنة، بدرجة ما، شريطة عدم منح العقل دواعي غروره في عقلنة ما لا يدركه أو اقحامه في مناطق أعمق مما يستطيع العوم بها وإلا لسمحنا له بالشطحات والتكهنات.
وبالتالي فإن لكل منهما ـ النص والعقل ـ منهجية في تحقيق الحقيقة ولكل منهما مساحته وطريقة عمله وآلية إثبات ما يريد، وربما تعكز كل منهما على الأخر وأخذ الأعرج بيد الأعمى. 
والأصل في ذلك، هو أن حكومة العقل لا تكتمل إلا بحكومة النص الديني، والأظهر منهما هو النص، وهو ما أكده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام لصاحبه هشام حين قال: "يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة، يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول".
وعلى هذا وذاك، فأن ليس من تعارض في النص الديني ـ سيما الغيبي منه ـ مع العقل، بل إنهما يكملان بعضهما البعض، وبالتالي فأن صيد المتربصين بهكذا طرح ـ التعارض بين النص والعقل ـ إنما أرادوا منه الخلوص الى أن أهل الدين ممن يقبلون الدين ونصوصه التعبدية مفرغين من التعقل ـ وهو مما لا يقبله صاحب دين أبدا ـ وبالتالي فأن الدين والعقل نفيران لا يلتقيان كخطين متوازيين لا التقاء بينهما!!! والكلام هنا حسب وجهة نظر من يرون في العقل والدين تضادا وتقابلا. 
 في حين يرى المتدينون إن الوصول للدين ـ بكلياته كالتوحيد والنبوة وغيرها وجزئياته من ابتلاءات يومية ـ ما كان ليكون إلا من خلال العقل، ما يمنح النص حجيته وقوته. 
وما قولنا هذا بالتوفيقي على حساب الحقيقة، إنما استشعارا منا لكل معلومة تستلمها عقولنا ـ كنص ديني ـ وما يستتبع ذلك من مساحات جديلة في العقل بين القبول والرفض، التحليل والتمحيص، ومن ثم الإثبات والاستقرار، وهو دليل على حجية النص بعد عقلنته، في وقت نرى فيه ـ أحيانا ـ استقالة العقل من تدبير شأنه خصوصا فيما لا يسع للحواس البشرية إدراكه، وهو ما دفع البعض ـ وحسنا فعلوا بذلك ـ لوصف العقل بالكتاب التكويني (تكوين الفكرة وتصويبها وقبولها، وربما رفضها)، في حين وصف النص بالكتاب التدويني.
من جهة أخرى، فأن النص الديني هو الأخر يعلل منطقيته بتوليده مرة ثانية من العقل بما يسمى بـ (الدور المعرفي)، حيث يقول جل شأنه ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد ـ24).
والخلاصة، أن حجية النص الديني تُستمد من عقلنته ـ عرضه على العقل المدرك ـ وبالتالي فلا معرفة دينية ولا دين أصلا ما لم يعضده العقل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فأن النص الديني ـ وفي مقدمته النص الإلهي كالقرآن، والتوراة والأنجيل (قبل تزويرها) فضلا عن الأحاديث النبوية ـ ما أنفك عن ممارسة حالة التوجيه والترشيد للعقل خصوصا في أزمنة كانت العقول تحتكم للأساطير وربما للقوى المشعوذة والمستعمرة، مع منحه ـ النص الديني ـ علوية ولو أحيانا؛ خصوصا فيما لا يمكن عقلنته كالحقائق الغيبية كالمرتبطة بالعالم الأخر والحساب ويوم القيامة وما الى ذلك مما يُلزم العقل، الحياد وعدم الغوص فيها ـ وعقلنتها يعتمد على الصور البرهانية المجردة التي لا ترتقى لفهم الحقيقة خصوصا وأن علم العقل علم كسبي (مكتسب) وليس فطري ـ ما يعني حاجة النص لعقل يمنحه القوة ويثبت مرجعيته، وحاجة العقل للنص في تعميق تحليله وإرشاده صوب الوجهة الحقة.
وعقلنة النص تعني اكتشافه ـ العقل ـ للمجهول وانتزاع الكليات من بين الجزئيات الشائكة، في حين يعني النص الديني ـ ونقصد به النص السليم من التزوير ـ إنما هو الحقيقة المحضة المفروغة من الخيالات والافتراضات، وهذا ما يجعل مراد التضاد بين العقل والنص، من تقولات المتخرصين ممن يبحث عن ذهب في قمامة.
كما لا يفوتنا القول بأن ثمة من يطرح هذا طرح ـ تضاد النص الديني مع العقل ـ ليس دائما يحمل طبيعة دسائسية، فقد يقال ذلك منعا لعرض النص المقدس على العقول السطحية وبالتالي توهينه وجعل فيه القول لمن ليس اختصاص، باعتبار أن العقل دائما ما يفتش على الإثارة بالشك والنقد، في وقت يكون فيه النص بعيدا عن الجرح والتصويب والتعقل لئلا يشطح به شاطح باعتبار إن العقول متفاوتة وليس من المنطق تحكيم هذه المتفاوتات في فهم نص أُنزل من قوى أكثر عقلا وحكمة من كل البشر، ما يحتم توليد عقل كسبي جديد (ليس فطريا) يرتقى ـ من كثرة مفاهيمه ـ الى تحليل النص وتصويبه او على الأقل قبوله من عدمه ـ وهو ما يعمل به أهل الدين وبالأخص ما يسمون منهم بـ (المجتهدين). 

ظافرة عبد الواحد خلف

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م