2022-07-09 861
مؤمن أم مُلحد؟ موقعية بين الإيمان والإلحاد
((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ))
يلمس المتتبع لقيمة العلم في حياة الإنسان، دعوات كثيرة وكبيرة من القرآن الكريم نحو العلم والتعلم والتعليم، ويجد المتدبر لآياته الكريمات محل الموضوع، ندب قرآني للعلم وقرنه بشكل دائما بالإيمان، وفي مواضع عديدة، ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب(((سورة الزمر ـ 9)) وهو دلالة جلية وواضحة على أهميته في رفعة شأن الإنسان، ومدار قربه من ربه سبحانه وتعالى ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ))(سورة فاطر ـ 28).
وبقدر ما كان الندب القرآني للعلم ندبا نوعيا، فأن تكراره عدديا، يؤكد أهميته القصوى، حتى أنك لا تجد صفحة قرآنية إلا وفيها ما فيها من حث للعلم، وتبيان لأهميته، وهذا فيه دلالة على ضرورة منحه الأهمية في حياة الإنسان بقدر ما هي موجودة في التكرار القرآني لها، بأعتبار أن العلم مفتاح الخروج من الضلال والدخول في منطقة النور الإلهي ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) سورة الجمعة ـ 2).
وقد أكد القرآن الكريم على الكثير من العلوم، لما في كل منها وصلة توصل الإنسان لعظمة الله سبحانه وتعالى، وتشّد الفرد إليه بإيمان لا يمسه زيغ.
وبدء مما أشار اليه القرآن الكريم مما يمكن تسميته بفيزياء الكون، فأن آيات الله الواضحات ستكون سببا في وصول من يتدبرها الى الحقيقة الكبرى، حقيقة عبوديته وربوبية الله سبحانه وتعالى ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))(سورة فصلت ـ53)، بل أن هذه الآيات الكونية إنما هي لمن يعلم ويتعلم ويعقل ما تعلمه، إفادة لحياته الدنيوية، ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة البقرة ، 164)، ((فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97))(سورة الأنعام ـ 96 ـ97)، ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6))(سورة يونس ـ 5 ـ 6).
ولم يكتف القرآن الكريم في الحث على علوم الفيزياء الكونية من خلال آياته الكونيات، إنما تطرق بإمعان الى فسلجة وكينونة الخلقة البشرية أو ما يمكن تسميته بآيات الفسلجة البشرية، ومنه مثلا قوله جل وعلا ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا))(سورة الفرقان ـ 54)، وقوله تعالى ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))(سورة فاطر ـ 11) وقوله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))(سورة الحج ـ 5)، وغيرها الكثير مما يدعو للتفكر بعظيم الخلقة البشرية، ودقة هندستها وعظيم مهندسها سبحانه وتعالى.
وأبتعد القرآن الكريم عن الآفاق الجسدية للإنسان، صوب عظمة خلق الله للحيوان، وتسخيره للإنسان، ومن ذلك قوله عز من قال ((وَإِنَّ لَكُمْ في الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ كَثِيْرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُون (22))(سورة المؤمنين ـ 21 ـ22)، ((أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا انْعَامَاً فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ افَلا يَشْكُرُون (73))(سورة يس ـ 71 ـ73).
وأبعد من ذلك، تطرق القرآن الكريم لعوالم البحر وعظيم آياته فيه، ((وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة النحل ـ14) وقوله تعالى ((وَمَا يَسْتَوى الْبَحرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ فِيْهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة فاطر ـ12).
وحديثنا عن العلم في القرآن الكريم، وما ذكرناه من شواهد دالة عليه في أعلاه، ليس على سبيل الحصر، إنما على سبيل المثال، وإلا فأن لتبيان الموضوع نحتاج الى مؤلفات كثيرة وكبيرة، وهو ما لا يسعه المقام هنا، إنما تطرقنا اليه بهذا الإيجاز، كي نصل والقارئ الى جدلية ايمان العلم وإلحاده، وإن شأت فقل: "أيمان العلماء وإلحادهم"، كونها جديلة عصرية بدأت تجذب المهتمين لمجاذب شتى، أفقدت البعض منهم أيمانه، وزادت الأخرين منهم ايمانا، ما يجعلها من الأهمية بمكان يستوجب منا مناقشتها ولو على سبيل العجالة.
بداية.. فأن مدارس الفلسفة الوضعية التي تبلورت منتصف القرن قبل الماضي وبدايات الماضي، هي من روجت لمفهوم "إلحاد العلم" وعدم جدوى الإيمان، بل هي من أوجدت ما يُعبر عنه بـ "سطيحة الأيمان وعمق الطبيعة"، إذ يرى فلاسفة هذه المدرسة ـ على نقيض غيرها من المدارس الفلسفة ـ بأن الحس والتجربة على إثره (الحس المتمثل بالحواس) هو السبب الوحيد لمعرفة ماهية الحقيقة! وكل ما غاب عنه الحس، ولم تسعفه التجربة، فهو محض وهم وخيال، بل وأمعنت هذه المدرسة الفلسفية في تطرفها الفكري هذا، بنكرانها لكل ما هو غير مادي وغير ملموس، عادة إياه ضرب من خبل وجنة وتصور معتوه، بعد أن عضدت ذلك المنهجيات العلمية المبنية لدى الكثير من المدرس الفكرية في الغرب من خلال مفهوم "الأمانة العلمية" التي أجبرت من لا يستطيع أن يثبت دعواه العلمية باليقين المادي (الحسي) ـ لا التصوري ـ بأن يكون خارج السباق العلمي، كتقييم علمي لمن لم يستطيع اثبات ما يدعيه بالتجربة بعد الحس، وهو ما أدى بالضرورة الى ابعاد ما لا يستطيع العقل البشري ـ في حينها ـ من تصوره أو تعقله، عن البحث العلمي، على الرغم من إقرار هؤلاء العلماء ـ ومن خلفهم مدارسهم ومذاهبهم العلمية والفلسفية ـ بقصور العقل البشري عن استدراك كل ما في الكون من ثوابت ومتغيرات، متجاهلين ما نادت به المدارس الاقدم والأعرق بخصوص الميتافيزيقيا والماورائيات، وهو ما ولّد مفهوم "إلحادية العلم والعلماء" في حينها، وصار مفهوما ومصطلحا تتجدد نيران الحديث عنه، كلما صار للمؤمنين بالخالق العظيم رأي في ما خلق واكتشفوه، خصوصا وأن ذلك قد تزامن مع ثورة الجماهير الغربية بالضد من الكنيسية التي كانت تمثل ـ يومذاك ـ مفهوم الإيمان بخالق الكون، وخطأها قبل قرنين من ذلك في الرد على جاليليو جاليلي بخصوص موضوعة كروية الأرض، وما استتبع ذلك من شيوع لنزعة الرفض للكنيسة وايمانها، وانشار لمفهوم الإلحاد بشكله النظري والعملي عما سبق.
وعلى الرغم من عدم ايمان العلم حسب الفلاسفة الوضعيين، وبالتالي إلحاده وإلحاد العلماء المؤمنين بهذه المدرسة الفلسفية، وما يمتلكه هؤلاء من وسائل علمية وتقنية تشوش على طلاب الحقيقة مرادهم، فإن المعتقدين بإيمان العلم لم يستسلموا ولا يقبلوا بنتائج هذه المدرسة، وإن قبلوا بجزئيات منها، فالعلم ـ حسب المؤمنين بالله ـ وليد الفطرة، وأس هذه الفطرة هو أدوات الإثبات ووسائله، ومن ذلك مثلا، التجربة الحسية على المستوى المادي هي المعيار الأصح والأحق في تحقيق اليقين وإثبات الحقيقة، وهو استنتاج فطري، قائم على الحس وتجربته، وبدون هذا الاستنتاج النابع من الفطرة، لا يمكن للحس والتجربة من اثبات ذاتهما، فضلا عن ايمان هؤلاء المؤمنين بضرورة وجود مسبب ما لكل سبب، ليقبلوا بذلك نظرية الحس والتجربة على الصعيد المادي، والسببية (المسبب والسب والنتيجة) على الصعيد الماورائي، الذي اصطلحوا عليه بـ "الغيبي" أو "الفقدي"، ليصلوا الى حقيقة وجود قوة عظيمة (مسبب) يحرك بأسبابه هذه الطبيعة وما تحويه ـ وهو عين ما كان قد حث عليه القرآن الكريم في البحث عن الموجد لهذا الكون والإيمان به خالقا أوحدا لا شريك له ولا عضيد، شكرانا في إيجاده وابداعه وسببيته في الإنشاء والخلق ـ، بخلاف ما افترضه أصحاب المدرسة الوضعية من الطبيعيين بأن الطبيعة هي من أنشأت نفسها ولا حاجة لمسبب خارجها! بعد أن أمنوا بأزلية المادة وقوانينها، وإنها ـ المادة ـ لا أوّل لوجودها ولا موجد لها، بل وهي في غنٍ عن أسباب ايجادها، لأن وجودها كان مصادفة لا أكثر! مع ما يمكن تفنيده من مصادفتهم هذه عبر متسلسلة الدور أو اثبات الرقم والكم ومتوالياتهما، فضلا عن هندسة المسار للأجرام السماوية، وهو ما يؤكد بالضرورة وجود من يحرك هذه الأدوار ويوزن المقادير فيها، أنه القوي المتين سبحانه وتعالى، الغني عن العالمين ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ))(سورة الأنبياء ـ 22).
يلمس المتتبع لقيمة العلم في حياة الإنسان، دعوات كثيرة وكبيرة من القرآن الكريم نحو العلم والتعلم والتعليم، ويجد المتدبر لآياته الكريمات محل الموضوع، ندب قرآني للعلم وقرنه بشكل دائما بالإيمان، وفي مواضع عديدة، ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب(((سورة الزمر ـ 9)) وهو دلالة جلية وواضحة على أهميته في رفعة شأن الإنسان، ومدار قربه من ربه سبحانه وتعالى ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ))(سورة فاطر ـ 28).
وبقدر ما كان الندب القرآني للعلم ندبا نوعيا، فأن تكراره عدديا، يؤكد أهميته القصوى، حتى أنك لا تجد صفحة قرآنية إلا وفيها ما فيها من حث للعلم، وتبيان لأهميته، وهذا فيه دلالة على ضرورة منحه الأهمية في حياة الإنسان بقدر ما هي موجودة في التكرار القرآني لها، بأعتبار أن العلم مفتاح الخروج من الضلال والدخول في منطقة النور الإلهي ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) سورة الجمعة ـ 2).
وقد أكد القرآن الكريم على الكثير من العلوم، لما في كل منها وصلة توصل الإنسان لعظمة الله سبحانه وتعالى، وتشّد الفرد إليه بإيمان لا يمسه زيغ.
وبدء مما أشار اليه القرآن الكريم مما يمكن تسميته بفيزياء الكون، فأن آيات الله الواضحات ستكون سببا في وصول من يتدبرها الى الحقيقة الكبرى، حقيقة عبوديته وربوبية الله سبحانه وتعالى ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))(سورة فصلت ـ53)، بل أن هذه الآيات الكونية إنما هي لمن يعلم ويتعلم ويعقل ما تعلمه، إفادة لحياته الدنيوية، ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(سورة البقرة ، 164)، ((فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97))(سورة الأنعام ـ 96 ـ97)، ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6))(سورة يونس ـ 5 ـ 6).
ولم يكتف القرآن الكريم في الحث على علوم الفيزياء الكونية من خلال آياته الكونيات، إنما تطرق بإمعان الى فسلجة وكينونة الخلقة البشرية أو ما يمكن تسميته بآيات الفسلجة البشرية، ومنه مثلا قوله جل وعلا ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا))(سورة الفرقان ـ 54)، وقوله تعالى ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))(سورة فاطر ـ 11) وقوله تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))(سورة الحج ـ 5)، وغيرها الكثير مما يدعو للتفكر بعظيم الخلقة البشرية، ودقة هندستها وعظيم مهندسها سبحانه وتعالى.
وأبتعد القرآن الكريم عن الآفاق الجسدية للإنسان، صوب عظمة خلق الله للحيوان، وتسخيره للإنسان، ومن ذلك قوله عز من قال ((وَإِنَّ لَكُمْ في الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيْكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ كَثِيْرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلىَ الْفُلْكِ تُحْمَلُون (22))(سورة المؤمنين ـ 21 ـ22)، ((أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا انْعَامَاً فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيْهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ افَلا يَشْكُرُون (73))(سورة يس ـ 71 ـ73).
وأبعد من ذلك، تطرق القرآن الكريم لعوالم البحر وعظيم آياته فيه، ((وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة النحل ـ14) وقوله تعالى ((وَمَا يَسْتَوى الْبَحرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ فِيْهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(سورة فاطر ـ12).
وحديثنا عن العلم في القرآن الكريم، وما ذكرناه من شواهد دالة عليه في أعلاه، ليس على سبيل الحصر، إنما على سبيل المثال، وإلا فأن لتبيان الموضوع نحتاج الى مؤلفات كثيرة وكبيرة، وهو ما لا يسعه المقام هنا، إنما تطرقنا اليه بهذا الإيجاز، كي نصل والقارئ الى جدلية ايمان العلم وإلحاده، وإن شأت فقل: "أيمان العلماء وإلحادهم"، كونها جديلة عصرية بدأت تجذب المهتمين لمجاذب شتى، أفقدت البعض منهم أيمانه، وزادت الأخرين منهم ايمانا، ما يجعلها من الأهمية بمكان يستوجب منا مناقشتها ولو على سبيل العجالة.
بداية.. فأن مدارس الفلسفة الوضعية التي تبلورت منتصف القرن قبل الماضي وبدايات الماضي، هي من روجت لمفهوم "إلحاد العلم" وعدم جدوى الإيمان، بل هي من أوجدت ما يُعبر عنه بـ "سطيحة الأيمان وعمق الطبيعة"، إذ يرى فلاسفة هذه المدرسة ـ على نقيض غيرها من المدارس الفلسفة ـ بأن الحس والتجربة على إثره (الحس المتمثل بالحواس) هو السبب الوحيد لمعرفة ماهية الحقيقة! وكل ما غاب عنه الحس، ولم تسعفه التجربة، فهو محض وهم وخيال، بل وأمعنت هذه المدرسة الفلسفية في تطرفها الفكري هذا، بنكرانها لكل ما هو غير مادي وغير ملموس، عادة إياه ضرب من خبل وجنة وتصور معتوه، بعد أن عضدت ذلك المنهجيات العلمية المبنية لدى الكثير من المدرس الفكرية في الغرب من خلال مفهوم "الأمانة العلمية" التي أجبرت من لا يستطيع أن يثبت دعواه العلمية باليقين المادي (الحسي) ـ لا التصوري ـ بأن يكون خارج السباق العلمي، كتقييم علمي لمن لم يستطيع اثبات ما يدعيه بالتجربة بعد الحس، وهو ما أدى بالضرورة الى ابعاد ما لا يستطيع العقل البشري ـ في حينها ـ من تصوره أو تعقله، عن البحث العلمي، على الرغم من إقرار هؤلاء العلماء ـ ومن خلفهم مدارسهم ومذاهبهم العلمية والفلسفية ـ بقصور العقل البشري عن استدراك كل ما في الكون من ثوابت ومتغيرات، متجاهلين ما نادت به المدارس الاقدم والأعرق بخصوص الميتافيزيقيا والماورائيات، وهو ما ولّد مفهوم "إلحادية العلم والعلماء" في حينها، وصار مفهوما ومصطلحا تتجدد نيران الحديث عنه، كلما صار للمؤمنين بالخالق العظيم رأي في ما خلق واكتشفوه، خصوصا وأن ذلك قد تزامن مع ثورة الجماهير الغربية بالضد من الكنيسية التي كانت تمثل ـ يومذاك ـ مفهوم الإيمان بخالق الكون، وخطأها قبل قرنين من ذلك في الرد على جاليليو جاليلي بخصوص موضوعة كروية الأرض، وما استتبع ذلك من شيوع لنزعة الرفض للكنيسة وايمانها، وانشار لمفهوم الإلحاد بشكله النظري والعملي عما سبق.
وعلى الرغم من عدم ايمان العلم حسب الفلاسفة الوضعيين، وبالتالي إلحاده وإلحاد العلماء المؤمنين بهذه المدرسة الفلسفية، وما يمتلكه هؤلاء من وسائل علمية وتقنية تشوش على طلاب الحقيقة مرادهم، فإن المعتقدين بإيمان العلم لم يستسلموا ولا يقبلوا بنتائج هذه المدرسة، وإن قبلوا بجزئيات منها، فالعلم ـ حسب المؤمنين بالله ـ وليد الفطرة، وأس هذه الفطرة هو أدوات الإثبات ووسائله، ومن ذلك مثلا، التجربة الحسية على المستوى المادي هي المعيار الأصح والأحق في تحقيق اليقين وإثبات الحقيقة، وهو استنتاج فطري، قائم على الحس وتجربته، وبدون هذا الاستنتاج النابع من الفطرة، لا يمكن للحس والتجربة من اثبات ذاتهما، فضلا عن ايمان هؤلاء المؤمنين بضرورة وجود مسبب ما لكل سبب، ليقبلوا بذلك نظرية الحس والتجربة على الصعيد المادي، والسببية (المسبب والسب والنتيجة) على الصعيد الماورائي، الذي اصطلحوا عليه بـ "الغيبي" أو "الفقدي"، ليصلوا الى حقيقة وجود قوة عظيمة (مسبب) يحرك بأسبابه هذه الطبيعة وما تحويه ـ وهو عين ما كان قد حث عليه القرآن الكريم في البحث عن الموجد لهذا الكون والإيمان به خالقا أوحدا لا شريك له ولا عضيد، شكرانا في إيجاده وابداعه وسببيته في الإنشاء والخلق ـ، بخلاف ما افترضه أصحاب المدرسة الوضعية من الطبيعيين بأن الطبيعة هي من أنشأت نفسها ولا حاجة لمسبب خارجها! بعد أن أمنوا بأزلية المادة وقوانينها، وإنها ـ المادة ـ لا أوّل لوجودها ولا موجد لها، بل وهي في غنٍ عن أسباب ايجادها، لأن وجودها كان مصادفة لا أكثر! مع ما يمكن تفنيده من مصادفتهم هذه عبر متسلسلة الدور أو اثبات الرقم والكم ومتوالياتهما، فضلا عن هندسة المسار للأجرام السماوية، وهو ما يؤكد بالضرورة وجود من يحرك هذه الأدوار ويوزن المقادير فيها، أنه القوي المتين سبحانه وتعالى، الغني عن العالمين ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ))(سورة الأنبياء ـ 22).
الأكثر قراءة
26270
18711
13928
10801