20 جمادي الاول 1446 هـ   21 تشرين الثاني 2024 مـ 12:07 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-08-20   569

الدعاء بين القبول والرفض والتأخير

يُعدّ الدعاء واحد من أهم أعمدة بيان عبودية العبد لربه، وإقرارا منه على أنه فقير وعيال لربه سبحانه، وإن لا حول له ولا قوة الا بالله، وهو ما يجعل الدعاء من مندرجات رياضة النفس ويعرفها بالقيمة الصغيرة لصاحبها امام مالك الملك جل شأنه. 
ويتضمن الدعاء، اعترافا ضمنيا بعجز المخلوق ـ من دون الخالق ـ عن تحقيق شيء، كدفع ضر او جلب منفعة، وإن الأمور كلها تسير بلطف ورحمة من اللطيف الرحمن.
وقد درج رسول الله وائمة أهل البيت عليه الصلاة والسلام بترويض المؤمنين على ادامة صلة العبودية منهم لله سبحانه من خلال الدعاء ـ بمعية مسالك ورياضات أخرى ـ؛ إلا أن الدعاء يبقى هو الثيمة الأبرز في عنونة ثنائية العلاقة (الربوبية ـ العبودية)، فهي علاقة محتاج وفقير لكافي وغني. 
وقد ضمن الله جل شأنه قبول دعاء المؤمن، ووعد بقضائه، مهما كان ـ بشرطها وشروطها ـ؛، واذا ما تأخر ذلك ولم يتحقق ما دعى المومن اليه، فعليه الصبر، فقد يكون المنع خيرا والمنح شرا، فلا داعي لياس الداعي وقنوطه، فأن رب الجلالة لا يحب القانطين، حيث يندرج ذلك بالضلالة حسبما قاله سبحانه وتعالى ((قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (56) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ))(سورة الحجر ـ 55 ـ 56)، وقوله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))(سورة الزمر ـ 53)، بل ان الله حث عباده على المداومة في سؤاله على الخير، وعدم السأم والملالة من ذلك أبدًا، فقال تعالى في محكم كتابه الكريم: ((لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ))(سورة فصلت ـ 49).
وبالاستفادة من كون الوعد الإلهي حق وان الله سبحانه لا يخلف وعده أبدًا، فلا بُدّ أن يتصالح المرء منا مع ما يدعو به ربه، لأن هذا الدعاء يقربنا لله جل شأنه، ففي قوله تعالى: ((إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))(سورة البقرة ـ 186)، يبين لنا الله جل شأنه بانه قريب من المؤمن الملحاح بالدعاء، بل أن الزهد في الدعاء استكبار من العبد عل ربه، كما في قوله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ))(سورة غافرـ 60).
وقد يحتم صالح المرء ـ احيانا ـ تأخير قبول الدعاء بعد إنفاذ وسائله وأدوات قبوله؛ حيث ان تأخير استجابة الدعاء يستبطن حِكَمة ومصلحة يجهلها العبد، حال التأكيد من عدم وجود موانع خارجية لقبوله كالمعصية مثلا. 
ومن جهة أخرى، فثمة سبب آخر لعدم الاستجابة للدعاء، الا وهو اللطف بصاحب الدعاء، فمثلا أن يدعي العبد هلاكه عاجلا، فمقتضى الرحمة واللطف الإلهيين لا يسمحان بذلك.
كما يمكن عدّ تأخير استجابة الدعاء لطفا من الله جل شأنه بالمحتاج، كتوفيقه لإدامة علقته مع ربه من خلال باب الدعاء والاستمرار به، وهي نعمة كبرى؛ لأن ذلك يعني أن العبد محل عناية ربه بتوفقه للدعاء، أي إن التأخير في استجابة الدعاء يوجب القرب، ناهيك عن احتمال ان يكون السبب في هذا التأخر هو استمرار الخير على العبد من ربه، ومن ذلك تأخر دعاء الذين هم مورد عناية ولطف الخالق، كالأنبياء والأوصياء، وهو ما نراه في تأخر استجابة الدعاء لأنبياء الله صلوات الله تعالى عليه، فقد روي بأن النبي إبراهيم عليه وآله ونبينا وآله افضل الصلاة وأتم السلام يجول في الصحاري والسهول حتى يأخذ العبرة من مخلوقات الله، فراي ذات يوم شخصًا في الصحراء يصلي وصوته يرتفع نحو السماء وكان سرواله من الشعر، تعجب النبي إبراهيم عليه السلام من صلاته فجلس قربه ينتظر إلى أن فرغ من صلاته، فقال له: "أعجبتني طريقتك وأحب أن أصبح صديقًا لك، أخبرني أين منزلك حتى أزورك عندما أريد"، فقال: "لا تستطيع العبور"، فقال عليه السلام: "وكيف تعبر أنت؟"، فقال: "أنا أعبر على الماء"، فقال عليه السلام: "إلهك الذي جعلك تستطيع العبور على الماء يستطيع تسخير الماء لي لأعبر أيضًا، هيا بنا نذهب وسأبقى الليلة عندك"، وعندما وصلا إلى الماء قال الرجل: "بسم الله وعبر الماء"، قال إبراهيم عليه السلام: "بسم الله" أيضًا وعبر على الماء، فتعجب الرجل من ذلك وبعد أن دخلا المنزل، سأل إبراهيم عليه السلام العابد: "أي الأيام أصعب؟"، فقال العابد: "اليوم الذي يحاسب الله عباده على أعمالهم"، فقال إبراهيم عليه السلام: "تعالَ ندعو الله كي يحفظنا من شر هذا اليوم"، وفي رواية أخرى: "تعالَ ندعو الله ليغفر ذنوب المؤمنين"، فقال العابد: "أنا لا أدعو فلي ثلاث سنوات وأنا أدعو الله لحاجة ولم يستجب لي ولن أطلب منه شيئًا حتى يقضيها لي"، فقال عليه السلام: "كلما أحب الله عبدًا حبس دعاءه، حتى يناجيه ويطلب منه، وإذا كان العبد عدوًا استجاب دعاءه بسرعة أو أدخل إلى قلبه اليأس حتى لا يدعو"، وعندها سأل العابد: "ما كانت حاجتك؟"، فقال: "ذات يوم كنت في المكان الذي رأيتني فيه فرأيت طفلاً في غاية الحسن والجمال وكان النور ينبعث من جبينه، كان يرعى بعض المواشي من بقر وغنم فسألته: "لمن الماشية" فقال: "لي"، فسألته: "ومن أنت؟"، قال: "إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام خليل الله"، فدعوت الله أن يريني خليله إبراهيم عليه السلام، فقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: "لقد استجاب دعاءك الآن، فأنا إبراهيم"، ففرح العابد ووضع يده على رقبة إبراهيم عليه السلام وبدأ بتقبيله شاكرًا الله، ثم أخذ بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م