2022-08-22 534
القرآن يحدثنا عن منظومة الفساد والإفساد
خلق الله الوجود بهيئة لا متناهية
الدقة، وأنشأ الموجودات بأحسن حال، وجعل في كل منها آية لا تدحض،
وعلامة على بيدع صنعه وجميل خلقه، ومن ذلك الأرض التي نسكن، إذ في
كل تفاصيلها من الآيات الباهرات ما يدعو للتأمل والتدبر كل
العمر.
وعلى الرغم من كمال الأرض وصلاحيتها للحياة المثلى التي يريدها الله سبحانه منا بعمارتنا لها وفقا لقوله تعالى: ((هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))( سورة هود ـ 61) وقوله تعالى: ((وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ))(سورة الأعراف ـ 129)، إلا أن الحاصل غير ذلك، بعد أن افسد بني أدم في مسكنه هذا، وحوله لدار خراب، ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ))(سورة الروم ـ 41)، وهو قريب جدا مما اعتقده الملائكة بأدم ونسله يوم خلقه الله جل شأنه: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ))(البقرة ـ30).
وعلى هذا وذاك، فأن الأرض ما زالت على خير كما ارادها الله لو لا تدخل الإنسان فيه بفساده وإفساده، فبدل الخير بالشر، ليكون ذلك مدعاة للطف الإلهي ببعثه المصلحين من الأنبياء والرسل، لكون مهمتهم الأولى والأهم في عمارة الأرض وصلاحها لسكنى الإنسان من خلال مشاريعهم الإصلاحية بإقصاء الفساد، وتنمية الفضيلة على حساب الرذيلة التي ينشدها العامة من الناس.
والفساد محل حديثنا هذا، إنما هو عامة الفساد، ولا نقصد به جزيئته الأخلاقية، وإن كانت هي الأخطر والأصعب، إلا أن لفظة الفساد هنا يراد بها خروج الشيء عن حدّ اعتداله، أي ما هو ضد الصلاح, وعلى هذا، وحسب التعبير القرآني أعلاه، فيندرج تحت مفهوم فساد الأرض هو جدبها وقحطها، وهو ما أراده جملة من المفسرين.
من جهة أخرى، ينصرف مفهوم الفساد الى الخلة في المعاملة، كأن يقال أفسد العقد أي بطل، حيث يراد به خروجه عن جادة الاتساق المطلوب منه.
قرآنيا، فقد ورد لفظة الفساد في أكثر من (50) مورد، حذر الله جل شأنه فيها من الإفساد والفساد والمفسدين وأنكر عليهم فعلتهم لأنها تتقاطع وأصل الخلقة والنشأة المستقيمة، لأن كل إعراض عن المنهج الإلهي الذي ينشد صلاح الأرض وعمارتها ونظم شؤون العباد فيها، إنما هو فساد، لأن الإعراض عن الجادة الإلهية إنما هي تولية عن الحق صوب الباطل وارضاء لأهواء النفس كما قاله جل شأنه في ذلك: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206))(سورة البقرة ـ 204 ـ 206)، وقوله تعالى ((وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))(الأعراف ـ 56).
ولو تأسى الناس بفعل المصلحين في عمارة الأرض لصلحت حياتهم واستقامت دنياهم وصاروا من عمارها ولتحصلوا على نعمها خيرها الذي يتطلب الصلاح كشرط لظهور الخير، ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا))(سورة الجن ـ 16)، إلا أن الحاصل هو ان كثيرا منهم قد جانبوا الصواب وأفسدوا في الأرض وخربوها بعدما كانت عامرة بالخير الفطري الذي جُبلوا عليه بنشأتهم، وكنتيجة حتميّة لهذا الفساد صارت الأرض غير صالحة للسكنى وصارت أقرب للفناء منها للبقاء بما في ذلك الطبيعية منها كفساد هواءها وتلوث مياهها وبوار تربتها بل وحبس سماءها واحتباس أجواءها ، ناهيك عما انتشر فيها من تهاوٍ للقيم الإنسانية الفطرية فضلا عن انهيار المثل والأخلاق الوازنة من خلال شيوع ما لا ينتمي للإنسان السوي بشيء، كالمثلية وتغير الجنس والقتل الجماعي وما الى ذلك من فساد وخراب، مما يحتم ان تكون النتيجة هي فناء الوجود البشري، لأن شرط الحياة الآمنة هو إصلاحها ((وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا....))(سورة الأعراف ـ 56).
ومظاهر الإفساد في الأرض كثيرة ومتعددة الصور، منها مثلا الصدّ عن سبيل الحق الذي بينه الله جل شأنه، كمصداق لقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ))(سورة النحل ـ88)، إذ أن هذا الصد يكون من خلال إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم، والعدولُ عن الحقّ بعد معرفتِه بالتولي عنه ((إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)) (سورة آل عمران ـ 62 ـ63)، من خلال ابتداع البدع واقحام الباطل في موارد الحق.
كما يتمظهر الفساد في صورة النِّـفاق، واظهار الفساد بصورة الإصلاح! حسبما بينه قوله تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بالهدى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16))(سورة البقرة ـ 11 ـ16).
ومن صور الفساد الأخرى هو القتل واستباحة الأعراض بغير حق، استضعافا للناس واستباحة لدمائهم المحترمة، كما فعل ذلك فرعون عليه اللعنة ـ ويحدث هذا اليوم في الكثير من الصور ـ : ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))(سورة القصص ـ 4).
من جهة اخرى، فأن التطفيف في المكيال وبخس الموازين هو الأخر فساد في الاض، فقوله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام: ((وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))(سورة هود ـ 85)، يدل على ذلك.
وإمعانا في التراحم بين الناس، عدّ سبحانه وتعالى قطع الأرحام نوعا من الفساد، فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ))(سورة محمد ـ 22).
ويكمن الفساد في صورة التبذير والإسراف في المأكل والمشرب ايضا، كقوله تعالى: ((......... كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))(سورة البقرة ـ 60).
وأوضح صور الفساد وأدلها، واقربها للمعنى العرفي حاليا هو ارتكاب المنكرات والفواحش، وهو مصداق حقيقي لمعنى الفساد والإفساد، كما قال تعالى على لسان نبيه لوط عليه السلام: ((وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30))(سورة العنكبوت ـ 28 ـ 30).
هذه صور قلية من صور الفساد الذي ضرب الأرض وسكينتها، وكان سببا في تبدل احوالها، سواء ما كان منه فسادا في النفوس بالقتل أو في الأبدان بفعل الحرام من زنا وشرب خمر مثلا أو بالمال بالسرقة والربا او بالدين بالشرك والكفر والابتداع بل والغلوّ ايضا، وهو مما اشار اليه أمامنا علي بن موسى الرضا عليهما السلام بقوله: "حرم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلّ، وفنائهم وفساد التدبير. وحرّم الله تعالى الزنا، لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد؛ وحرّم الله عزَّ وجلَّ قذف المحصنات، لما فيه من فساد الأنساب ونفي الولد وإبطال المواريث وترك التربية وذهاب المعارف، وما فيه من الكبائر والعلل التي تؤدّي إلى فساد الخلق".
وعلى الرغم من كمال الأرض وصلاحيتها للحياة المثلى التي يريدها الله سبحانه منا بعمارتنا لها وفقا لقوله تعالى: ((هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))( سورة هود ـ 61) وقوله تعالى: ((وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ))(سورة الأعراف ـ 129)، إلا أن الحاصل غير ذلك، بعد أن افسد بني أدم في مسكنه هذا، وحوله لدار خراب، ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ))(سورة الروم ـ 41)، وهو قريب جدا مما اعتقده الملائكة بأدم ونسله يوم خلقه الله جل شأنه: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ))(البقرة ـ30).
وعلى هذا وذاك، فأن الأرض ما زالت على خير كما ارادها الله لو لا تدخل الإنسان فيه بفساده وإفساده، فبدل الخير بالشر، ليكون ذلك مدعاة للطف الإلهي ببعثه المصلحين من الأنبياء والرسل، لكون مهمتهم الأولى والأهم في عمارة الأرض وصلاحها لسكنى الإنسان من خلال مشاريعهم الإصلاحية بإقصاء الفساد، وتنمية الفضيلة على حساب الرذيلة التي ينشدها العامة من الناس.
والفساد محل حديثنا هذا، إنما هو عامة الفساد، ولا نقصد به جزيئته الأخلاقية، وإن كانت هي الأخطر والأصعب، إلا أن لفظة الفساد هنا يراد بها خروج الشيء عن حدّ اعتداله، أي ما هو ضد الصلاح, وعلى هذا، وحسب التعبير القرآني أعلاه، فيندرج تحت مفهوم فساد الأرض هو جدبها وقحطها، وهو ما أراده جملة من المفسرين.
من جهة أخرى، ينصرف مفهوم الفساد الى الخلة في المعاملة، كأن يقال أفسد العقد أي بطل، حيث يراد به خروجه عن جادة الاتساق المطلوب منه.
قرآنيا، فقد ورد لفظة الفساد في أكثر من (50) مورد، حذر الله جل شأنه فيها من الإفساد والفساد والمفسدين وأنكر عليهم فعلتهم لأنها تتقاطع وأصل الخلقة والنشأة المستقيمة، لأن كل إعراض عن المنهج الإلهي الذي ينشد صلاح الأرض وعمارتها ونظم شؤون العباد فيها، إنما هو فساد، لأن الإعراض عن الجادة الإلهية إنما هي تولية عن الحق صوب الباطل وارضاء لأهواء النفس كما قاله جل شأنه في ذلك: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206))(سورة البقرة ـ 204 ـ 206)، وقوله تعالى ((وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))(الأعراف ـ 56).
ولو تأسى الناس بفعل المصلحين في عمارة الأرض لصلحت حياتهم واستقامت دنياهم وصاروا من عمارها ولتحصلوا على نعمها خيرها الذي يتطلب الصلاح كشرط لظهور الخير، ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا))(سورة الجن ـ 16)، إلا أن الحاصل هو ان كثيرا منهم قد جانبوا الصواب وأفسدوا في الأرض وخربوها بعدما كانت عامرة بالخير الفطري الذي جُبلوا عليه بنشأتهم، وكنتيجة حتميّة لهذا الفساد صارت الأرض غير صالحة للسكنى وصارت أقرب للفناء منها للبقاء بما في ذلك الطبيعية منها كفساد هواءها وتلوث مياهها وبوار تربتها بل وحبس سماءها واحتباس أجواءها ، ناهيك عما انتشر فيها من تهاوٍ للقيم الإنسانية الفطرية فضلا عن انهيار المثل والأخلاق الوازنة من خلال شيوع ما لا ينتمي للإنسان السوي بشيء، كالمثلية وتغير الجنس والقتل الجماعي وما الى ذلك من فساد وخراب، مما يحتم ان تكون النتيجة هي فناء الوجود البشري، لأن شرط الحياة الآمنة هو إصلاحها ((وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا....))(سورة الأعراف ـ 56).
ومظاهر الإفساد في الأرض كثيرة ومتعددة الصور، منها مثلا الصدّ عن سبيل الحق الذي بينه الله جل شأنه، كمصداق لقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ))(سورة النحل ـ88)، إذ أن هذا الصد يكون من خلال إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن الطريق المستقيم، والعدولُ عن الحقّ بعد معرفتِه بالتولي عنه ((إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)) (سورة آل عمران ـ 62 ـ63)، من خلال ابتداع البدع واقحام الباطل في موارد الحق.
كما يتمظهر الفساد في صورة النِّـفاق، واظهار الفساد بصورة الإصلاح! حسبما بينه قوله تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أولئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بالهدى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16))(سورة البقرة ـ 11 ـ16).
ومن صور الفساد الأخرى هو القتل واستباحة الأعراض بغير حق، استضعافا للناس واستباحة لدمائهم المحترمة، كما فعل ذلك فرعون عليه اللعنة ـ ويحدث هذا اليوم في الكثير من الصور ـ : ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ))(سورة القصص ـ 4).
من جهة اخرى، فأن التطفيف في المكيال وبخس الموازين هو الأخر فساد في الاض، فقوله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام: ((وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))(سورة هود ـ 85)، يدل على ذلك.
وإمعانا في التراحم بين الناس، عدّ سبحانه وتعالى قطع الأرحام نوعا من الفساد، فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ))(سورة محمد ـ 22).
ويكمن الفساد في صورة التبذير والإسراف في المأكل والمشرب ايضا، كقوله تعالى: ((......... كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))(سورة البقرة ـ 60).
وأوضح صور الفساد وأدلها، واقربها للمعنى العرفي حاليا هو ارتكاب المنكرات والفواحش، وهو مصداق حقيقي لمعنى الفساد والإفساد، كما قال تعالى على لسان نبيه لوط عليه السلام: ((وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30))(سورة العنكبوت ـ 28 ـ 30).
هذه صور قلية من صور الفساد الذي ضرب الأرض وسكينتها، وكان سببا في تبدل احوالها، سواء ما كان منه فسادا في النفوس بالقتل أو في الأبدان بفعل الحرام من زنا وشرب خمر مثلا أو بالمال بالسرقة والربا او بالدين بالشرك والكفر والابتداع بل والغلوّ ايضا، وهو مما اشار اليه أمامنا علي بن موسى الرضا عليهما السلام بقوله: "حرم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلّ، وفنائهم وفساد التدبير. وحرّم الله تعالى الزنا، لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد؛ وحرّم الله عزَّ وجلَّ قذف المحصنات، لما فيه من فساد الأنساب ونفي الولد وإبطال المواريث وترك التربية وذهاب المعارف، وما فيه من الكبائر والعلل التي تؤدّي إلى فساد الخلق".
الأكثر قراءة
25956
18691
13885
10752