19 جمادي الاول 1446 هـ   21 تشرين الثاني 2024 مـ 7:28 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2022-08-19   591

الإسلام في جزيرة العرب.. الأثر والمؤثر والمتأثر.

شكل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، اضخم حدث في تاريخ العرب، بل أنه نقطة التحول في وجودهم، كما شكل بداية لحياة دينية واجتماعية وسياسية وفكرية جديدة، لم يعهدها العرب سابقا، وكان له أكبر الأثر في حياتهم بحيث أدّى إلي انقلاب تام في معالم وجودهم الاجتماعي، ادى الى تبدل في أنماط ونُظُم حياتهم ومرافقها، كما بدّل من نفسيات الفرد العربي وشخصيته وطريقة تفكيره، ومن أهم هذه الصعد التحولية هي:
علي الصعيد الديني :
قضي الإسلام علي الوثنية وقرر التوحيد المطلق للّه في الذات والصفات والتوجه له بالعبادة وحده، جاء في القرآن : ((وإلهُكُمْ إلهٌ واحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ))(سورة البقرة ـ 163)، وهو ما عاد على الفرد العربي المؤمن بهذا الدين وبالتحديد بعقيدة التوحيد منه بالاستقلال والحرية، فليس لأحدٍ عليه سلطان، كما البسه جلباب الأنفة والعفّة، كنتيجة حتمية لهذا التوحيد، خصوصا ما ينتج عنه من اعتقاد بأن لا رزاق إلاّ اللّه .
كما اثرى التوحيد؛ الفرد المسلم من الخلفية العربية بالشجاعة وعدم هيبة الموت؛ لانّ الذي يملكه هو اللّه وحده؛ وبذلك ارتفع إلى العزّة والإباء والاستشهاد في سبيل الحق، وراح يحارب الشرك باللّه ؛ لأنّه وليد الجهل والوهم ((وَمَنْ يُشْرِكْ باللّه ِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً))(سورة النساء ـ 116)، ناهيك عما دعا إليه التوحيد مما هو وراء هذه الحياة من حياة أخرى، يحاسب فيها كلّ انسان علي ما أتي من خير أو شر، فالإنسان يعزّ عليه أن لا ينال الخير أجره، وان لا يلقي الشر جزاءه، والاعتقاد بوجود إله عادل يستتبع حتماً جزاء علي الخير والشر، فان لم يتم العدل في عالم الأرض فلا بدّ أن يتم هناك في عالم آخر. ((أفَحَسِبْتُم أنّما خَلَقْناكُم عَبَثاً وأنَّكُم إلينا لا تُرْجَعُون))(سورة المؤمنين ـ 115) و ((للّه ِ ما في السَّمواتِ وما في الأرْضِ، وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُم أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُم بهِ اللّه ُ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعذّبُ مَنْ يَشاءُ، واللّه ُ علي كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ))(سورة البقرة ـ 284).
من جهة أخرى، ومن نتائج هذا الاعتقاد التوحيدي، يأتي الايمان بالملائكة وهو ما يوجب الاعتقاد بأنّ للإنسان حياة روحية، وأنّه يجب عليه تنشيط هذه الحياة، والاستجابة لعوامل الخير التي أودعها اللّه فيه، والغرض من ذلك التسامي بالإنسان والرقي به الي أعلي درجات الكمال.. ولهذا جعل الاسلام والايمان بالملائكة ركيزة من ركائز الدين، كما بًين ذلك في قوله تعالى ((آمَنَ الرّسُولُ بما أُنْزِلَ اليهِ مِن ربِّه والمؤمنُونَ، كُلٌّ آمنَ باللّه ِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ))(سورة البقرة ـ 285)
كما أوجب الإيمان بالقرآن وبما سبقه من كتب سماوية أنزلت علي رسُل الأُمم الماضية في صورتها الحقيقية، والاعتقاد ببعثة الرسل وتصديقهم، ووجوب الاقتداء بهم في سيرهم. وهي ميزة اختص بها الإسلام؛ وأراد بها التوفيق بينه وبين غيره من الاديان، ووضع أساساً للتعارف والإخاء والوحدة بين شعوب الأرض، والاعتقاد بخاتم هؤلاء الرسل متمثلا بنبي الإنسانية محمّد صلي الله عليه و آله وسلم، وإن رسالته الي الناس كافة والي جميع شعوب الارض ((قُلْ يا أيُّها الناسُ إنّي رَسُولُ اللّه إليكُم جَميعاً... ))(سورة الأعراف ـ 158) وجعلها اللّه خاتمة جميع الرسالات السابقة، وناسخة لما تقدم منها، ومكملة ومتممة للأديان السابقة، ((........ اليومَ أكملتُ لكم دينكُمْ وأتْمَمْتُ عليكُم نِعْمَتي وَرَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِيناً ...........))(سورة المائدة ـ 3).
وفرض الإسلام علي معتنقيه عبادات جديدة ربطت بين قلوبهم ووحَّدت صفوفهم، كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، فالصلاة هي التي تمد الجماعة الانسانية بالقوى الروحية التي لا بدّ منها لصلاح المجتمع، وتخلق في الإنسان عقيدة اطاعة أوامر اللّه وتدعوه إلي التماس العون من اللّه، اضافة إلى وقوف المسلمين دون فارق أو تمييز يؤدون حركات واحدة ويبتهلون ابتهالات واحدة متجهين إلي قبلة واحدة.
ونفس الأمر ينسحب لفريضة الصيام، حيث يؤدي المسلمون فريضة الصوم بما فيها من صفاء للنفوس وتطهير للقلوب، فهي طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس وتقوية الإرادة، وعلاج نافع لكثير من الأمراض النفسية والاجتماعية بالإضافة إلي ما فيه من الفوائد الصحية.
كما يؤدي المسلمون الزكاة التي تجعل للفقير حقاً معلوماً في أموال الاغنياء؛ ليكون ضماناً اجتماعياً ثمرته حفظ التوازن بين طبقات الأمة.
وفي الحج يجتمع المسلمون من كل حدب وصوب في بيت اللّه تأكيداً علي عمق إيمانهم ورسوخ عقيدتهم، وسعياً للرحمة والغفران والحج مؤتمر عام لتوحيد غايات المسلمين وتوجيههم إلي مصادر الحياة الصحيحة بما يقتبسه بعض شعوبهم من ثقافات البعض الآخر، ووسيلة لتحقيق الفوائد الروحية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية.
من جهة أخرى، فقد قرر الإسلام بأن لا قيمة لإنسان إلاّ بما يعمله، وان الإيمان المصحوب بالعمل الصالح وسيلة إلي النعيم الدنيوي، ((من عَمِلَ صالحاً من ذَكَرٍ أو أنْثي وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طيّبةً وَلَنَجْزِيَنّهُم أجْرَهُم بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْملُونَ))(سورة النحل ـ 97).
ويؤسس الإسلام لقيمة اخرى، مفادها بأن ليس خير الناس أكثرهم مالاً ولا أعزّهم نفراً ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(سورة الحجرات ـ 13)
وبالمحصلة، فإن لهذه العقائد والتعاليم الجديدة أثرها الواضح في رفع المستوي العقلي للفرد العربي ممن آمن بهذا الدين، عرب، فتغيرت قيمة الاشياء والاخلاق في نظر العرب، وارتفعت قيمة أشياء وانخفضت قيم أخرى، وأصبحت مقومات الحياة في نظرهم غيرها بالأمس.

علي الصعيد الفكري والنفسي :
حارب الإسلام كثيراً من الخرافات والاوهام كالعرافة والقيافة والكهانة وما إلي ذلك، ودعا النّاس إلي التفكير المنطقي والتأمل العقلي وطلب العلم والمعرفة، فحرّك العقول، وفتح الأذهان علي أمور كان من شأنها أن بدّلت في المعادلة العقلية عند العرب وغيرت نفسيتهم، فقد أُتيح للعقل في الإسلام مجال واسع للنظر في سرّ الوجود وإدراك حقيقته وماهيته، وقد نصّت آيات كثيرة علي تأمل خلق السموات والأرض وما بينهما من كواكب وأفلاك وجبال وبحار وحيوان وطير وحشرات، ودعت الإنسان ليتفكر في تعاقب اللّيل والنهار والشمس والقمر. قال تعالي : ((أوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَمواتِ والأرْضِ، وَما خَلقَ اللّه ُ مِنْ شيءٍ وأنْ عَسي أنْ يَكُونَ قَد اقْتَرَبَ أجَلُهُمْ فبأيّ حديث بَعْدَهُ يُؤمِنُونَ))(سورة الأعراف ـ 185)، وقوله تعالى : ((وآيةٌ لَهُمُ اللّيلُ نَسْلَخُ منه النهارَ فإذا هُمُ مُظلِمُونَ * والشَّمْسُ تجري لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تقديرُ العَزِيزِ العَليم (34) والقَمَرَ قَدَّرناهُ منازِلَ حَتّي عادَ كَالعُرْجُون القديمِ (35) لا الشَّمسُ يَنبغي لها أن تُدْرِكَ القَمَرَ ولا اللّيلُ سابِقُ النّهارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(36))(سورة يس ـ 34 ـ 36).
كما حث الإسلام العرب على تحكيم العقل في كل ما يعرض للإنسان من أمر، وقد ذكر القرآن العقل باسمه وأفعاله زهاء خمسين مرة، وذكر كلمة «اُولو الألباب » أي أصحاب العقول في بضع عشرة مرة، وذكر «العلم » في مواضع من آياته تناهز المائة وذكر مشتقاته أضعاف ذلك، وبين أن العقل نعمة كبري وأنّه لا بد من استخدامه واللجوء إلي حكمه. فيقول تعالي في تذييل كثير من الآيات القرآنية : «إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَعْقلُون » «ولقد بينا الآيات لقوم يعقلون » «أفلا تعقلون». فالقرآن رفع العقل مكاناً علياً، لأنّ العقل السليم هو الذي يرتضي الفضائل التي دعا اليها الإسلام، فمثلاً الوفاء بالعهد خلّة محمودة يحرص عليها فقط العقلاء الفضلاء، ونكث العهد رذيلة يأنفون منها؛ لأنها منقصة فنحن لا نعرف فضيلة وقد أمر الدين بها إلاّ وقد ارتضاها العقل السليم وأيدها، وهشّ لها الضمير الحي وسدّدها، وليس هناك رذيلة وقد نهي الدين عنها وبغضها إلاّ ورفضها العقل السليم وقبحها ونفر منها الضمير الحيّ وأنكرها.
كما حض الإسلام على العلم؛ لأنّه يعلم أن الشخصية الإنسانية لا يقومها ولا يرقيها ويشحذ قواها إلاّ العلم، ومن هنا كان تفريقه بين العلماء وغيرهم. قال سبحانه : ((............. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لا يعلمُونَ إنّما يَتَذّكرُ أولُوا الألبابِ))(سورة الزمر ـ 9)، ولا ريب ان العلماء هم أكثر الناس فهماً لآلاء اللّه ووعياً لحكمة آياته وتمثلاً لبديع قدرته : ((وتِلْكَ الأمثالُ نَضْرِبُها للنّاسِ وما يَعْقلُها إلاّ العالِمُونَ))(سورة العنكبوت ـ 43)، وان لهم درجات عند ربّهم وميزات يخصهم بها ((............ يرفَع اللّه ُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُم والذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ))(سورة المجادلة ـ 11) وقوله تعالى: ((........إنّما يَخْشي اللّه َ مِنْ عِبادِهِ العلماءُ))(سورة فاطر ـ 28).
ومن ناحية أخرى؛ يسجل القرآن علي الذين لا يعلمون حكماً لا يرضاه ذو إدراك لنفسه : ((....... كذلِكَ يَطْبَعُ اللّه ُ علي قُلُوبِ الذينَ لا يَعْلَمُونَ))(سورة الروم ـ 59).
كما دعا الإسلام إلى اقامة البرهان اليقيني القاطع علي كلّ شيء يراد أن يعرف حقيقته ((........... قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُم إن كُنْتُم صادِقِينَ ))(سورة البقرة ـ 111)، وعدم اللجاج والجدل غير العلميين ((ومِنَ الناسِ مَنْ يُجادِلُ في اللّه بغيرِ عِلْمٍ ولا هُديً ولا كِتابٍ مُنيرٍ))(سورة الحج ـ 8).
وأمر الله ـ حسب الإسلام ـ عباده المسلمين بأن يتقيدوا بالأسس العلمية ولا يتوهمون ويظنون كالدهريين والجاهليين ((ولا تَقْفُ ما ليسَ لَكَ بهِ عِلْمٌ، إنَّ السَّمْعَ والبَصَر والفُؤادَ كُلُّ أولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسؤُولاً))(سورة الإسراء ـ 36)؛ لانّ الظنون والأوهام هما السبب في تضليل النّاس وإفساد معتقداتهم : ((وإنْ تُطع أكثرَ مَنْ في الأرضِ يُضِلُّوكَ عن سبيلِ اللّه ِ إنْ يَتَّبِعُون الاّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ))(سورة الأنعام ـ 116).
كل ذلك، وغيره من الصعد، شكلت نقاط تحول لدى الفرد العربي، بدول الإسلام حيث يكون، بل وصيرته من إنسان بدوي، يقتات على قطع الطرقات، الى فرد نافع، بل صيرته رقما مهما في معادلة الحضارة الإنسانية. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م