19 جمادي الثاني 1446 هـ   21 كانون الأول 2024 مـ 7:56 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-03-25   401

صورة العالم في الكتاب المقدس

مع تبلور الفكر النقدي وانحسار سيطرة الكنيسة على الدراسات الدينية، لا سيما في مجال تحليل ودراسة النصوص الأساسية للكتاب المقدس، أو ما يُعرف اليوم بـعلم (النقد الأعلى)، الذي يهتم بفحص أصول النصوص وتاريخها، شهدنا انفتاحًا ملحوظًا أمام البحوث الأركيولوجية. وهذه الأخيرة، بدورها، مهدت الطريق لاستكشاف الأصول البشرية للعديد من الروايات المذكورة في الكتاب المقدس.

ومنها اكتشاف أن قصة بداية خلق الكون التوراتية لا تتمتع بالأصالة، فمع تقدم البحوث الأركيولوجية في منطقة الشرق الأوسط، صاحب ذلك اكتشافات مذهلة لم تخطر على بال العلماء، حيث بيّنت الألواح الطينية والنقوش الأثرية المختلفة أن قصص التوراة، في العديد من جوانبها، لم تكن تقدم محتويات جديدة، بل إعادة صياغة لأساطير قديمة كانت تنتشر في الثقافات الوثنية السائدة آنذاك، خصوصاً شعوب ما بين النهرين (العراق القديم)، التي سعت لفهم الكون وتشكيلته بواسطة معارف علمية في غاية البساطة والنقص.

حيث يتضح من خلال الأشعار والقصص والترانيم الدينية أن هناك تشابهات واضحة تدل على وجود صلة تاريخية بين خرافات الشعوب القديمة والمزاعم المدونة في أسفار الكتاب المقدس.

من ذلك زعم العهد القديم أن الأرض عبارة عن قرص مسطح، يقوم على أعمدة، فوقه قبة سماوية تشبه الخيمة، يعبر عنها الكتاب المقدس بـ(الجلد)، تعتمد على جبل في أحد طرفي الأرض من جهة وعلى القمر من الجهة الأخرى، كما هو مبين في الشكل، وفوق قبة السماء ماء، ينفذ أحياناً منها فينزل بنحو المطر، فهذا المطر الذي نراه هو ماء متسرب من الماء الموجود فوق السماء، كما أن تحت قرص الأرض هناك بحار، وهي المصدر للينابيع والعيون، كما أنها مصدر الشر.

 

 وقد أشار العهد القديم لذلك في مواضع عدة: (وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلًا بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ. فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ).  

فيخبرنا النص السابق بأن الله قسم المياه بواسطة السماء (الجلد)، الى قسمين، علوي وسفلي، يقول جون.هـ.ولتون: يبدأ اليوم الثاني (من أيام الخلق) بفصل آخر: فصل المياه التي فوق عن المياه التي في الأسفل. أعتقد الجميع في العالم القديم أن هناك مياهاً فوق (بما أن هذه المياه تنزل في بعض الأحيان) ومياهاً تحتها (بما أنه يمكنك الحفر للبحث عن الماء، وحيث توجد الينابيع تظهر المياه). لا يتم تقديم أي معلومات علمية جديدة هنا؛ يعكس النص الطرق التي يفكر بها كل فرد في العالم القديم بالكون.  The Lost World of Adam and Eve.

وقد ذكر العهد القديم هذا التصور مكرراً، ففي مزمور 3/104: (المُسَقِّفُ عَلالِيَهُ بالمياه. الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح). ومزمور 4/148: (سبحيه يا سماء السماوات، ويا أيتها المياه التي فوق السماوات).

في هذا السياق، ذكر مؤلفو كتاب (الخلفية التاريخية للكتاب المقدس: العهد القديم): «صورة الكون الموصوفة هنا [سفر أيوب 11-6/26] هي النظرة الكونية الشائعة في الشرق الأدنى القديم. كانت السماء دائرة (قبة؟) فوق قرص الأرض المستقر على المحيط البدائي. تحت المحيط البدائي كان العالم السفلي الذي هو تقريباً صورة عاكسة للفضاء فوق الأرض. وهكذا، كان الكون بأكمله عبارة عن كرة هائلة مقطوعة في الوسط بالأرض». The IVP Bible background commentary: Old Testament, p505.

وفصل الناقد كايل جرينوود الأمر؛ فقال: «نظراً إلى أن بني إسرائيل القدماء تنفسوا الجو الثقافي نفسه لمن يحاذونهم جغرافياً، فلا عجب أن النظرة التوراتية للكون تحمل كثيرًا من القواسم المشتركة مع النظرة الأوسع للعالم في الشرق الأدنى. في الكتاب المقدس وفي الأدب القديم وفي الأيقونات في الشرق الأدنى، اعتبرت الأرض قرصاً مسطحاً - لا كرة - مدعومة بأعمدة تأسيسية. كانت الأرض قطعة أرض صغيرة نسبياً، تشير نقاط البوصلة الأربعة الخاصة بها إلى نهايات الأرض. (شيول)، أو مسكن الموتى، تقع تحت الأرض. كانت أرض "اللاعودة" هذه تقع في الطرف الآخر من الكون كالسماء. ثم فصلت السماوات إلى السماوات الدنيا والعليا من خلال قبة أو بناء يشبه الخيمة، يعرف بالجلد. في السماوات الدنيا كانت هناك الطيور والكواكب والنجوم. كانت السماوات العلوية محجوزة للآلهة والملائكة. كان المحيط الكوني بأكمله محاطاً بالبحار الكونية. تم تعليق البحار المذكورة أعلاه على السماء التي فيها نوافذ تهطل منها الأمطار. كانت البحار في الأسفل، والمعروفة أيضًا باسم العمق، مصدر الينابيع والآبار والأنهار والبحيرات. كانت البحار أيضا مصدرًا للفوضى، أو على الأقل الفوضى المحتملة، التي يجب تقييد صلاحياتها. على الرغم من أن بعض التفاصيل تختلف بين مصر وبلاد ما بين النهرين وسوريا، إلا أن هذه النظرة الكونية العامة تم تبنيها في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم». Scripture and Cosmology, p101-102.

وأما ما يخص أعمدة السماء، فمن أهم النصوص الكتابية الدالة عليها، ما جاء في سفر أيوب 11/ 26: (من زجره ترتعش أعمدة السماء وترتعد من تقريعه). يقول التعليق على الكتاب المقدس: «أعمدة السماء في العدد 11 هي الجبال التي تحمل السماء». Eerdmans Commentary on the Bible, p348.

وهذا المعنى منقول بحذافيره من الحضارة المصرية القديمة، فنقرأ مثلاً ترنيمة النصر لتحتمس الثالث: «أنا أجدد مجدك وخوفك في كل الأرض، وأجدد الخوف منك ما بقيت الأعمدة الأربعة تحمل السماء»، Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, p374.

ونقرا في الحملات الآسيوية لرمسيس الثاني: «أنا أشرق مثل قرص الشمس وأشرق مثل رع، كما ا السماء ثابتة على دعائهما» Ibid,p240.

وكذا في ملحمة الأوديسا لهوميروس (1:53) أن الأطلس يضم أعمدة طويلة تحفظ تباعد الأرض والسماء.

بينما نجد القرآن الكريم حريصاُ على نفي قيام السماء بأعمدة ي أكثر من آية كريمة، كقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.. الآية)، الرعد: 2، وقله ايضاً: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا..)، لقمان: 10.

وفيما يخص الأعمدة التي يقوم عليها قرص الأرض، فقد جاء في صموئيل (1) 2/8: (لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة). وكذا في صموئيل (2) 22/16: (فظهرت أعماق البحر، وانكشفت أُسس المسكونة من زجر الرب، من نسمة ريح أنفه).

وأيوب 9/6: (المزعزع الأرض من مقرها، فتتزلزل أعمدتها). وغيرها كثير. يقول جوليوس.أ.بور: «أعتقد اليهود ان الأرض مؤسسة على محيط مائي أسفلها 2/24، وأن نهايات الجبال أعمدة الأرض تمتد عمقاً الى الأسس». أنظر مزمور 16/18.

وهذا عين ما كان يعتقده العراقيون والمصريون القدامي، يقول الناقد جون والتون: «تقدر النصوص الآكادية مساحة البر على الأرض أنها تقارب 3000 ميل... ومن أمثلة هذه الانطباعات وصف مرتفع (سمريا) في إحدى نقوش سرجون: جبل سمريا قمة جبل عظيمة، نتوءاتها المرتفعة مثل حد السيف على رأس سلسلة الجبال.. في الأعلى تسند قمتها السماوات، وفي الأسفل تبلغ جذورها العالم السفلي.

بينما وصف القرآن الكريم ما تحت الأرض بانه كتلة لينة، من طبعها أن تميد أي تتحرك وتميل، قال تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)، لقمان: 10. فلا أعمدة تسندها، وما جاء في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، النبأ: 6ـ 7. المراد أن الجبال تقوم بعملية تثبيت باطن الأرض، فهي كالأوتاد التي تثبت الخيمة في الأرض.

الشيخ مقداد الربيعي – باحث وأستاذ في الحوزة العلمية

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م