2024-05-13 410
انتشار الإسلام: هل أجبر المسلمون الناس على اعتناق دينهم؟!
يؤمن المسلمون بأن ديانتهم هي الحق المطلق، وأن سائر الديانات إما أن تكون قد تعرضت للتحريف والتغيير قبل أن يأتي الإسلام لينسخها، أو أنها مجرد ضلالات وقع فيها الإنسان بسبب جهله. إلا أنهم ورغم ذلك كانوا في سعيهم لانتشال الأمم والشعوب التي اختلطوا بها من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام، يعتمدون الحجة الواضحة والخُلق القويم والدين الميسّر الذي تقبله الفطرة السليمة ولا يجد العقل صعوبة في استيعابه، محافظين طوال تاريخهم الحضاري العريق على سياسة عدم الإكراه في الدين.
ينقل الخربوطلي عن المستشرق دوزي في كتابه (نظرات في تاريخ
الإسلام)، قوله: «إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى
إلى إقبالهم على الإسلام وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم
يألفوه في دياناتهم السابقة». الإسلام وأهل الذمة، ص111.
ويقول غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): «إن القوة لم تكن
عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في
أديانهم.. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ
العربية لغة له، فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل
الذي لكم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة
التي لم تعرفها الأديان الأخرى». حضارة العرب، ص127.
وقد أدرك المسلمون أن هداية الخلق جميعًا أمر غير ممكن، وأن
الغالبية العظمى من الناس لا تؤمن، ولذلك كان على الدعاة الاستمرار
في دعوتهم والسعي في سبيل هدايتهم، فالمطلوب منهم هو مجرد التبليغ،
والله تعالى هو من يتولى أمر الذين يعرضون عن الحق في الآخرة. كما
نص القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا
عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، النحل: 82.
ولذلك لا يشعر المسلم بالصراع مع من يعرض عن الهداية، لأن الله
تعالى قد أعفاه من مسؤولية هدايتهم، وأكد على أن الهداية بيد الله
وحده الذي يهدي من يشاء. وقد أكرم الله الإنسان بالعقل الذي يميز به
بين الحق والباطل، ومنحه الحرية في اختيار ما يشاء من المعتقدات دون
إكراه، فقال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، البقرة: 256، وقوله ايضاً: (وَلَوْ شَاءَ
رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، يونس: 99.
وبالفعل، لم يجبر المسلمون أحدًا على الإسلام؛ فالإيمان عمل قلبي
خالص، والمكره على الإسلام لا يعتبر مسلمًا حقيقيًا. وقد أولى
الإسلام اهتمامًا بالغًا بسلامة دور العبادة وضمان حرية الأفراد في
ممارسة شعائرهم الدينية دون تدخل.
وإذ لم يجبر الإسلام من تحت ولايته على الدخول فيه؛ فإنه بذلك
يكون قد ترك الناس على أديانهم، وأول مقتضياته الإعراض عن ممارسة
الآخرين لعباداتهم، وضمان سلامة دور العبادة.
وهذا بالفعل ما ضمنه المسلمون في عهودهم التي أعطوها للأمم التي
دخلت في ولايتهم أو عهدهم، فقد كتب النبي صلى الله عليه واله لأهل
نجران أماناً شمل سلامة كنائسهم وعدم التدخل في شؤونهم وعباداتهم،
وأعطاهم على ذلك ذمة الله ورسوله. أنظر: الطبقات الكبرى لابن سعد،
ج1، ص266، وكتاب الأموال ابن زنجويه، ج2، ص449.
وهنا نحاول استدعاء كلمات كبار المؤرخين المسيحيين حول سماحة
الإسلام، وتعامله مع مواطنية من باقي الديانات، والتي لا تتوافر حتى
في عالمنا اليوم:
يقول وول ديورانت: «لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون
واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الإسلامية بدرجة من
التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد
كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم».
قصة الحضارة، ج12، ص131.
ويقول ايضاً: «وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب
الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين.. وأصبحوا يتمتعون بكامل
الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم.. وكان المسيحيون أحراراً في
الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين
لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين.. وأصبح المسيحيون الخارجون على
كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على
يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء
الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين». نفس المصدر، ص132.
فلم يحاول المسلمون بغير صورة الدعوة الحسنة ولغة الحجاج العلمي أن
يرغم اتباع الديانات على اعتناق الإسلام، يقول توماس أرنولد: «لم
نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام او
عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي». الدعوة الى
الإسلام، ص99.
وينقل معرب حضارة العرب قول روبرتسن في كتابه تاريخ شارلكن: «إن
المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو
أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم،
تركوا من لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية».
حاشية الصفحة 128، من كتاب حضارة العرب لغوستاف لوبون.
وينقل ايضاً عن الراهب ميشود في كتابه رحلة دينية الى الشرق، ص 29،
قوله: «ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح،
الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي
معتقد عليهم بالقوة».
بل وصل بهم الأمر أن يمدوا يد العون لغيرهم في تعمير دور عبادتهم،
وهذه شهادة رأس الكنيسة البطريرك عيشو يابه الذي تولى منصب البابوية
حتى عام 657 م، حسب ما ينقل ترتون في كتابه أهل الذمة في الإسلام:
«إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما
تعرفون. إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون
قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون الى كنائسنا وأديرتنا». أهل الذمة
في الإسلام، ص159.
الأمر الذي انعكس ايجاباً على المسلمين، بحيث رحبت بقدومهم العديد
من الشعوب، فلم تكن تلك الشعوب تخشى من قهر المسلمين لهم للتخلي عن
دياناتهم، يقول المفكر الإسباني بلاسكو أبانيز في كتابه ضلال
الكنيسة، ص64، متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس: «لقد أحسنت
إسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا اليها من القارة
الأفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا
أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى، حتى تفتح لهم الأبواب
وتتلقاها بالترحاب.. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر.. ولم
يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة
التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها
كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي
سبقته، فعرف لها حقها، واستقر الى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب
في السيادة عليها. فن الحكم في الإسلام، مصطفى أبو زيد فهمي، ص387.
ويقول المؤرخ الإنكليزي السير توماس أرنولد في كتابه الدعوة الى
الإسلام: «لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم
منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة،
ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد
اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في
وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح». الدعوة الى
الإسلام، ص51.
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «العرب لم يفرضوا على
الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود
الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سمح لهم
جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم
بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى،
أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟»
شمس العرب تستطع على الغرب، ص364.
ويقول المؤرخ الإسباني أولاغي: «فخلال النصف الأول من القرن التاسع
كانت أقلية مسيحية تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة». سعد
بوفلاقة، ص14.
يقول القس إيلوج: «نعيش بينهم دون ان نتعرض الى أي مضايقات، فيما
يتعلق بمعتقدنا. حوار الثقافات في الغرب الإسلامي». نفس المصدر.
بل ينقل المؤرخون الغربيون باستغراب بعض الحوادث الغريبة المشينة في
تاريخنا، وهي على كل حال تنقض ما يزعمه المفترون على الإسلام، تقول
المؤرخة زيغرد: «لقد عسّر المنتصرون على الشعوب المغلوبة دخول
الإسلام حتى لا يقللوا من دخلهم من الضرائب التي كان يدفعها من لم
يدخل في الإسلام». شمس العرب تستطع على الغرب، ص365.
ويقول ول ديورانت في سياق حديثه عن الخليفة عمر بن عبد العزيز:
«وبينما كان أسلافه من خلفاء الأمويين لا يشجعون غير المسلمين في
بلاد الدولة على اعتناق الإسلام، حتى لا تقل الضرائب المفروضة
عليهم، فإن عمر قد شجع المسيحيين، واليهود والزرادشتيين على
اعتناقه، ولما شكا اليه عماله القائمون على شؤون المال من هذه
السياسة ستفقر بيت المال أجابهم بقوله: والله لو وددت أن الناس كلهم
أسلموا، حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا». قصة
الحضارة.
ويبين لما توماس أرنولد: أن خراج مصر كان على عهد عثمان إثنا عشر
مليون دينار، فنقص على عهد معاوية حتى بلغ خمسة ملايين، ومثله كان
في خراسان، فلم يسقط بعض الأمراء الجزية عمن أسلم من أهل الذمة،
ولهذا السبب عزل عمر بن عبد العزيز واليه على خراسان الجراح بن عبد
الله الحكمي، وكتب: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً.
طبقات الإسلام لابن سعد، ج5، ص283، والدعوة الى الإسلام، لأرنولد،
ص93.
إذا كان الحال كما عرفنا؛ فما السر في تقبل الشعوب للإسلام وإقبالها
عليه؟
ويقول: «وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من
الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم
بدينهم ولغتهم.. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل
العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم». حضارة العرب، ص605.
ويوافقه المؤرخ ول ديورانت، فيقول: «وعلى الرغم من خطة التسامح
الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق
الدين الجديد معظم المسيحيين وجميع الزرادتشتيين والوثنيين إلا
عدداً قليلاً منهم.. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب
في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا الى مراكش والأندلس، وتملك
خيالهم وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس
الحيالة ومتاعبها». قصة الحضارة، ج13، ص133.
ويقول روبرتسون في كتابه (تاريخ شارلكن): «لكننا لا نعلم للإسلام
مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم
يكره عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان
نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب». روح
الدين، عفيف طبارة، ص412.
ويقول آدم متز: «ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلت
الدولة الإسلامية، بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم،
والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء
المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا
كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل
كانت تشمل الى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص
المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به». الحضارة الإسلامية في القرن
الرابع الهجري، ج2، ص93.
ويقول ايضاً: «أما في الأندلس فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل». نفس المصدر، ج2، ص95.
سماحة الشيخ مقداد الربيعي - باحث وأستاذ في الحوزة العلمية:
الأكثر قراءة
25920
18688
13882
10749