2024-06-02 530
الفيل والعميان.. نقد مقولة جواز التعبد بسائر الأديان
في مثالٍ ذكره أبو حامد الغزالي يحكي عن تحسس مجموعة من العميان لفيل داخل غرفة مظلمة، ملخصه: اننا نفترض مجموعة أشخاص من فاقدي البصر منذ الولادة، يجلسون في غرفة مظلمة في داخلها فيل، فمن الطبيعي انهم سيستعملون حاسة اللمس للتعرف على ماهيته، لكن نظراً لمحدودية هذه الحاسة فإن كل واحد منهم سيفسر الفيل بحسب الجزء الذي تلمسه وتحسسه بيده، ومن هنا ستختلف تفسيراتهم لحقيقة واحدة بحسب مداركهم، كأن يقول من تلمس رِجل الفيل منهم أن الفيل ذو شكل اسطواني كبير، بينما يصور الآخر الفيل وقد تلمس خرطومه، بأنه كالأفعى، وثالث تلمس أذنه، يصوره بصورة ثالثة .. وهكذا، وهي تفسيرات ناقصة لكنها تحكي عن حقيقة واحدة.
بهذا النحو صور جماعة في منتصف القرن المنصرم مسألة التعددية
الدينية، فادعوا أن كل الديانات صادقة وحقة، وتمثل جزءاً من
الحقيقة.
من هنا يرى جون هيك ــ صاحب النظرية ــ ان جميع الديانات ماهي إلا
تفسيرات ناقصة لحقيقة واحدة، فتراه يطلق على غير المسيحين بـ
(المسيحيين بلا أسم)، لأنهم يتحدثون عن نفس الحقيقة لكن بحسب ما
أدركوه منها.
ماهي الأسباب وراء ظهور النظرية؟
وقد كان وراء ظهور نظرية التعددية الدينية جملة من الأسباب السياسية
والاجتماعية، منها:
ـ طريقة تعامل الكنيسة مع النظريات العلمية التي تعارض نظرياتها
التقليدية في بداية عصر النهضة مما ولد تعارضاً بين الدين والعلم،
دفع البعض للاعتقاد بعدم يقينية المعارف الدينية، والشك في صحتها.
ـ نشوء البروتستانتية الليبرالية والتي تعتقد بضرورة القبول
بالتفسير العلمي للكتاب المقدس، وتعتقد بعدم موثوقية المناهج
العقلية في تفسيره.
ـ أدى ظهور البروتستانتية الليبرالية الى ظهور الليبرالية السياسية،
والتي ايدت بواسطة نفوذها التعددية الدينية.
ـ كما ساهمت كثرة الحروب الدينية وغيرها لا سيما الحربين العالميتين
وما نتج عنها من مآسٍ ومحن في ضرورة البحث عن ثقافات تؤمن بقبول
الآخر وتخفف من حدة الخلافات الدينية.
هذا المسار التاريخي دفع بالكثير من مفكري الغرب المسيحي الى تبني
التعددية الدينية كرصيد فكري وبناء تحتي للتعايش السلمي، ومن هنا
يتضح السبب في تزايد اعداد المناصرين لهذه النظرية بصوة مطردة نظراً
للحضور الفاعل لفكرة التعايش السلمي في أدبيات وسلوكيات هذه النخب.
وقد اخذت التعددية شكلها المعدل والمتطور في القرن العشرين على يد
أحد علماء اللاهوت المسيحي وهو (ويلفورد كنتول) أستاذ معهد الإلهيات
في هارفرد ومن ثم تلقاها تلامذته من بعده، إلا ان المتكلم المسيحي
المعاصر (جون هيك)، وهو من تلاميذ كنتول يُعد أبرز دعاتها وأهم
المنظرين للتعددية الدينية، صرح بذلك في كتابه (فلسفة الدين) عام
1963.
ولا يعني شيوع هذه النظرية في الغرب أنها لاقت اجماعاً فكرياً او
ثقافياً، بل هي ما زالت تتعرض للانتقادات الى يوم الناس هذا، ولعل
من أبرز منتقديها المفكر الديني ألوين بلانتينجا.
وفي الساحة الإسلامية أثارت أخيراً مقالة للدكتور عبد الكريم سروش
نشرت في العدد 36 من مجلة (كيان)، عام 1997، ضجة واسعة في الأوساط
الدينية والثقافية في إيران، وقد دافعت المقالة عن التعددية الدينية
ونظّرت لمبانيها وعرفت بنظرية (السرط المستقيمة)، وقد تلتها العديد
من الكتابات المؤيدة والمعارضة لها.
وقد ذهب جملة من الباحثين الى أن ما كتبه الدكتور سروش هو اجترار
وإعادة صياغة لكتابات كل من الدكتور محمد أركون وفضل الرحمان. كما
أن هناك من يرى إن الباحث الإيراني ميمندي نجاد قد سبق سروش في طرح
نظرية التعددية الدينية في الوسط الإيراني في بدايات النصف الثاني
من القرن العشرين.
أهم مستندات النظرية
وأهم أدلة النظرية يتلخص بأن تفسير النص الديني يتوقف على جملة من
العلوم اللسانية والطبيعية، وهذه العلوم في حالة تطور وتغير مستمر،
وبالتالي سيتغير التفسير. ومن هنا يمكن الانتقال الى نقطتنا
المحورية التي نبحث عنها، وهي انبساط الحقيقة على مجموع الأفهام، أي
ان الفهم الديني الكامل يكون بالأخذ بمجموع الآراء والتفسيرات
المتعددة للنص، لا في تفسير دون تفسير وفهم دون فهم، فقد حاز كل
منها على نصيبه من الحقيقة.
وتباعاً لهذا ستتغير نظرتنا الى الكثرة، فبدل أن نراها مظاهر ضلال،
سنراها تفسيرات يكمل بعضها بعضاً. وتترتب عليه نتيجة مفادها عدم
وجود تفسير واحد للنص الديني، وعدم سلطة فهم على آخر.
ولكن غفل أصحاب النظرية عن أن هذا الأمر مقبول إذا انطلقت الأديان
من نص ديني واحد، وكان سبب تعددها اختلاف اتباعها في تفسيره، والحال
أن كل واحد منها له نصوصه المقدسة، فالاختلاف بينها بسبب اختلاف نفس
النص لا بسبب اختلاف تفسيره.
كما لا تنبغي الغفلة عن إن أقصى ما يثبته الدليل هو سبب كثرة
الأديان، لا حقانيتها وصدقها جميعاً، فحتى لو افترضنا وجود نص واحد
اختلفوا في تفسيره، فهذا سيكون سبباً في التعدد والكثرة، لكن ما
المانع من أن تكون جميعها تفسيرات باطلة، او على الأقل بعضها؟!
والدليل الآخر الذي يتلو السابق في الأهمية، هو أن كل دين يمثل
التجربة الدينية لمؤسسه، فكل مؤسسي الأديان سواء انبياء كانوا او
غيرهم مروا بتجارب روحية مع المقدس، وهذه التجربة قد فسرها أصحابها
بنحو معين، فالكل تلمس جزءً من الحقيقة كما في مثال الفيل المتقدم.
ويقصد بالتجربة الدينية: المواجهة مع الذات المطلقة والمتعالية. هذه
التجربة تأخذ أشكالاً ومظاهراً متعددة بما فيها أبسط التجارب
الروحية كعلاقة الانسان العادي مع ربه، مروراً بالتجارب الروحية
للعرفاء وصولاً لتجارب الأنبياء والرسل، والتي يكون أعلاها المعراج
المحمدي، على صاحبه وآله أفضل الصلاة والسلام.
وهذا الدليل كسابقه أخص من المدعى، فإن قبلناه في أصحاب الديانات
الأرضية كالوثنية فلا يمكن قبوله في الديانات الحقة، فقد يتراءى
لساحر او كاهن ما صور من الجن والشياطين فيفسرها بتفسير معين يتشكل
منه دين لأتباعه، وليس كل أصحاب ومؤسيي الديانات من هذا القبيل،
فهناك النبي المعصوم، صاحب الكتاب المعصوم.
فالدليل قائم على خصيصة بشرية التفسير للتجربة الدينية، ونقصد
بتفسير التجربة بيانها بواسطة اللغة ووضعها في قوالب المفاهيم.
النظرية في الفضاء الإسلامي
ذكرنا فيما تقدم أن الدكتور عبد الكريم سروش قد تبنى النظرية، وقد
أسماها بنظرية (الصرط المستقيمة)، وقد رد عليه البروفيسور محمد
لغنهاوزن، بأن نظرية (التعددية الدينية) هي في الحقيقة محاولة إصلاح
دينية قام بها جون هوك لمعالجة إشكالات في الدين المسيحي، فمن يعرف
التاريخ المسيحي لا سيما فيما يتعلق بتاريخ الفرق والمذاهب وما
يرتبط بنظريات الثواب والعقاب في اللاهوت المسيحي، يدرك ضرورة وجود
علاج لهذه المشاكل، فإن الكاثوليك مثلاً كانوا يعتقدون في فترة
القرون الوسطى بأن الجنة لا يدخلها إلا من اغتسل غسل التعميد الكنسي
ويعتقدون ان موسى وإبراهيم عليهما السلام ليسا من أهل الجنة رغم
احترام الكنيسة لهما؛ لعدم اغتسالهما وتعميدهما، فسيضطران للبقاء في
منطقة بين الجنة والنار تعرف في أدبياتهم بـ(ليمبو)، وهي ذاتها
الأعراف حسب المفهوم الإسلامي، حتى يأتي عيسى عليه السلام يوم
القيامة ليدخلهما بيده الى الجنة.
فالنظرية جاءت لتعبر عن موقف بديل للوضع الفكري والثقافي السائد في
المسيحية، فهي نظرية محكومة لسياقها التاريخي والمحيط البيئي الذي
نشأت فيه او كانت رد فعل له او علاجاً منظوراً.
وهذا الوضع يتسبب في حصول مفارقات وتشوهات عند نقل الفكرة للفضاء
الديني الإسلامي، لأن الفضاء الفكري الإسلامي لا يحمل مثل هذه
التصورات الكنسية الحادة والمتطرفة حتى تأتي التعددية الدينية لتكون
حلاً او علاجاً. وهذا معناه ان الواقع الإسلامي لا يرى نفسه مضطراً
للقبول بفكرة التعددية لإصلاح مشكلات يعيشها، بل إن لديه من الأفكار
والتصورات ما يجعله قادراً على حل تلك المشكلات التي تورطت فيها
المسيحية من دون الرجوع لنظرية التعددية الدينية التي طرحها جون هيك
والذي هو في النهاية رجل دين مسيحي (قس) من فرقة (برسبتيوري) في
بريطانيا في الأصل، وقد سعى بنظريته للقيام بعملية إصلاح للفكر
المسيحي بالدرجة الأولى.
وهذا الأمر قد جرى نظيره في الكثير من النظريات التي تولدت في الغرب
والتي كانت علاجاً لمشكلات يعاني منها الإنسان الغربي في حقبة زمنية
خاصة.
إن نقلها لمحيط حضاري آخر قد لا يجعلها فاقدة لخاصية العلاج فحسب بل
انه يخلق منها مشكلة جديدة في هذا الواقع تحتاج بدورها للعلاج.
والنماذج على هذا الخطأ كثيرة من أبرزها فكرة العلمانية والتي اريد
بلورة الدين الإسلامي على أساسها، مع إنها وضعت في سياق تاريخي خاص
بالعالم الغربي وكبديل عن تحكم الكنيسة في الشأن لسياسي في القرون
الوسطى من دون أن يكون لها صياغة لإدارة الحياة بقدر ما كانت عبارة
عن مجموعة وصايا أخلاقية وروحية، بخلاف الإسلام الذي يمتلك تلك
الصياغة لإدارة شؤون الفرد والمجتمع. وهذا معناه ان الدعوة
للعلمانية في وسط حضاري كالإسلام سيؤدي لإفراغ محتواه وهذا ما يخلق
لنا مشكلة جديدة نحتاج لوضع الحلول لها.
وفي الختام، هل النظرية فكرة واقعية؟
أشار الأستاذ محسن غرويان بأن فكرة المجتمع المدني غير
الأيدلوجي بمعنى الاعتراف بكافة الرؤى والاتجاهات لا تعدو عن كونها
فكرة مثالية غير واقعية وليس لها وجود حتى في الدول الأكثر ليبرالية
في العالم، لأن هذه الدول إذا ما تعرضت لما يهدد مرتكزاتها
الأيدلوجية كالديمقراطية نفسها فإنها تستخدم مختلف الوسائل لمنع ذلك
ومحاربته، وقضية حظر الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة شاهد قريب
على ذلك.
الشيخ مقداد الربيعي - باحث وأستاذ في الحوزة العلمية
الأكثر قراءة
25892
18685
13876
10741