الدعاء: حديث الروح مع خالقها
الشيخ
مقداد الربيعي: في كل عام، ومع انتهاء مسيرة الزائرين في
الأربعينية، تتناثر بين الجموع قصصٌ تعجُّ بالروحانية وتتوهج بنور
الإيمان. وفي هذا العام، سمعتُ حكايةً تسكن في الأعماق عن امرأة
ابتلاها القدر بفقدان والدتها المقعدة على كرسي متحرك ورضيعها في
خضم زحام السائرين نحو كربلاء.
أيامٌ مضت والمرأة تجوب المكان، وقلبها يعتصره الحزن، لا تعرف أين تذهب ولا إلى من تلجأ. لم تجد ملاذاً سوى التوسل إلى الله، والاستنجاد بأهل بيت الرحمة، عليهم السلام، أن يعيدوا إليها ما فقدت. وبينما هي في غمرة اليأس والرجاء، قادها القدر إلى مرقد العباس بن علي، عليهما السلام.
هناك، لفت نظرها مشهدٌ جعل قلبها يخفق بشدة. رأت امرأةً تجلس بالقرب من المرقد، وفي حضنها طفلٌ صغير ترضعه. لم تصدق عينيها، هرولت نحوها كالمتيمة، وكأنها عاشقة عثرت على محبوبها بعد طول غياب، أو كظمآنة في صحراء قاحلة وجدت ينبوع ماء. احتضنت طفلها، ودموع الفرح تتلألأ في عينيها.
وبينما هي تلتقط أنفاسها، بادرتها المرأة الجالسة بالحديث: "يا أختاه، منذ ثلاثة أيام وأنا أحضر إلى هذا المكان، بحثاً عن أهل هذا الطفل. رأيتُ أبا الفضل عليه السلام في منامي، وأمرني أن آتي هنا، قائلاً إن أحد زواره الصغار بحاجةٍ إلى رعاية." وأشارت المرأة إلى شابٍ كان يقف قريباً، تائهاً يبحث عمن يكفل العجوز المقعدة والرضيع.
وهكذا، كان للقدر ترتيبه، وكانت للسماء إرادتها. تحققت رؤيا المرأة،
وجمع الله بين القلوب المفجوعة بألطافه الخفية، لتكون هذه القصة
شاهدة على كرامات أهل البيت عليهم السلام، وعلى قوة الإيمان والدعاء
في أحلك اللحظات وأصعب الظروف.
الدعاء، ذلك الهمس النابض من قلب المؤمن إلى خالقه، ليس مجرد كلمات تتناثر في الهواء، بل هو لغة الروح، صدى الشوق والحنين إلى السماء، وعشق العبد لربه. هو ملجأ المستضعف حين تنغلق كل الأبواب، وركيزة الثبات حين تشتد العواصف وتتكالب الأهوال.
فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الحاجة الواقعية، وإن لم يطلبه الإنسان بلسانه، لذا ترى أنه تعالى عد ما لم يطلبه الإنسان بلسانه دعاءً وسؤالاً، قال تعالى: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، إبراهيم: 34، فهم فيما لا يحصون من النعم التي لم يطلبوها بلسانهم، وإنما سألوها بلسان فقرهم وحاجتهم. وكذا قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، الرحمن: 29، فعد كل ما يفيضه على خلقه حتى الجمادات منها سؤالاً لها ودعاء.
وعليه فحقيقة الدعاء هو طلب رفع الحاجة الواقعية من الله تعالى، سواء طلبه بلسانه، أو لم يطلبه.
وهنا لدينا سؤالان: الأول: إن كانت هذه حقيقة الدعاء، فهي متحققة من كافة الخلق، ومن المؤمن والكافر، فما وجه الحث على الدعاء؟ والثاني: إن هذا المعنى للدعاء يقتضي استجابة جميع الأدعية، كونها مطلوبة بلسان الفقر والحاجة، والله سبحانه لا بخل في ساحته، مع إننا نجد كثرة الأدعية غير المستجابة؟
والجواب عن الأول، أن الدعاء وإن كانت حقيقته الحاجة والفقر الذاتي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، فاطر: 15، إلا أن ذلك لا يوجب عليه تعالى سد فقرهم وحاجتهم، وإنما قيد تعالى استجابة دعائهم بالإخلاص، وبتفريغ القلب من كل ما عداه، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ..)، البقرة: 186، فاشترط سبحانه استجابة الدعاء، بكون العبد داعياً له دون غيره، وأما ما راج بين الناس من دعائه تعالى مع اعتقادهم بتأثير غيره من الأسباب المتعارفة لا يُعد دعاء له سبحانه، بل هو دعاء لإله يعمل مع الأسباب وهذا الإله ليس هو الله، ففي الحقيقة هذا الداعي لم يدعو الله جل جلاله.
وبعبارة أخرى، إذا دعيت لمريض وأنت تعتقد بتأثير الدواء او الطبيب وتغفل عن حقيقة حصر التأثير به تعالى، فقد دعيت إله آخر، ولم تدع الله. وقد بين آيات الذكر الحكيم هذه الحقيقة في عدة آيات كريمة، منها قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)، الأنعام: 63 ـ 64، فتخبر الآية الكريمة أن الانسان عند فقده الأسباب يدرك عدم تأثيرها فيتوجه الى الله تعالى لإنقاذه، ولكن في حال الرفاه تتعلق نفسه بالأسباب الطبيعية المتعارفة، ويشركها في التأثير، ويغفل عن حقيقة أن تأثيرها كان بتمليك وتقدير الله تعالى لها، وأن كل ما لها من القدرة والتأثير هو منه تعالى.
فالحقيقة التي يصدح بها القرآن أن ما تملكه هذه الأسباب من تأثير فهو من فيض جوده تعالى، وأنه جل اسمه متى ما أراد منعها من التأثير فهي مقهورة تحت إرادته، كما أن له تعالى تحقيق دعاء العبد من طريق غيرها من الأسباب.
وهنا ننبه إننا لا ندعو لترك تحصيل الأسباب المتعارفة، وإنما الممنوع هو الاعتقاد بتأثيرها من دون الله، أو أن ندعو الله وقلوبنا معلقة بالأسباب.
والخلاصة، أن الدعاء وإن كان هو ما تدعو به الفطرة ولسان الحاجة، إلا أنه تعالى لا يجب عليه الاستجابة، وإنما قيد استجابته بدعائه والاعتقاد بعدم تأثير غيره إلا به، قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..)، الفرقان: 77، وقال ايضاً: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، غافر: 60، والآية الكريمة صريحة في توقف استجابة الدعاء على دعاءه تعالى أي دعاء إله لا يعمل بمشاركة غيره من الأسباب.
وبما تقدم يتضح جواب السؤال الثاني، وهو سر عدم استجابة الدعاء، فالآية حدد ذلك بسببين:
الأول: عدم وجود حاجة حقيقية، كأن ما يدعو الانسان ويسأل الله أمراً لا يشكل حاجة حقيقية له، بل قد تصب في ضرره وهو لا يعلم، فلا تتحقق فيها حقيقة الدعاء، التي هي طلب رفع الحاجة الواقعية.
الثاني: أنه لم يدع الله تعالى، بل دعا إلهاً يعمل بمعية الأسباب، كم يسأل الله حاجة وقلبه متعلق بالأسباب الطبيعية، فلم يخلص الدعاء لله سبحانه. وفي عدة الداعي عن النبي صلى الله عليه واله قال: «قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه، وإن دعاني لم أجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمن السموات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن أستغفرني غفرت له».
وعن محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه واله، قال: أوحى الله الى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل آمل غيري، بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي، ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني.. الحديث».
ومن خلال هذا الأصل يمكن فهم الروايات الدالة على أسباب عدم الاستجابة، كقول الصادق عليه السلام: إن الله لا لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. فإن مثل هذا الدعاء لا يحكي عن حاجة حقيقة يسألها العبد، ففقد الأمر الأول من أسباب عدم الاستجابة.
او كالذي ورد في دعوات الراوندي: في التوراة يقول الله عز وجل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك، فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخرتكما الى يوم القيامة. فإن سؤال العبد على أخيه المؤمن سيجلب له الضُر وهو لا يعلم، فعدم استجابته لأجل أنه لا يشكل حاجة حقيقية له، لأن من سأل شيئاً رضي به وبكل ما يماثله في حقه، قال تعالى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا)، السراء: 11.
فهؤلاء الطائفتين من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن
أخلصوه بلسانهم.