19 جمادي الاول 1446 هـ   21 تشرين الثاني 2024 مـ 9:23 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-11-19   90

العلاقة بين الدين والسياسة: تفكيك أطروحة العلمانية كحل للتعايش

الشيخ معتصم السيد أحمد: يتطلب النقاش حول فكرة أن "العلمانية هي الإطار الوحيد للتعايش بين الأديان" معالجة متوازنة تشمل الجوانب الثقافية، التاريخية، والدينية، لا سيما في السياقات الإسلامية. هذه الفكرة، التي كثيراً ما يتم تسويقها باعتبارها نموذجاً عالمياً، تواجه تحديات واقعية في المجتمعات الإسلامية التي يرتبط فيها الدين بجوانب الحياة كافة. في هذا المقال نستعرض مبررات التداخل بين الدين والسياسة في الإسلام، مشيرين إلى أن التفاعل بين الدين والسياسة يشكل ضمانة لتوازن المجتمعات واستقرارها. 

 الدين كركيزة في الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية
الدين في المجتمعات الإسلامية ليس مجرد ممارسة شخصية تُقتصر على أداء الشعائر أو إقامة العبادات، بل هو منظومة شاملة تتداخل مع كافة جوانب الحياة. فهو يشمل الجوانب الروحية التي توجه الإنسان نحو السمو الأخلاقي والتواصل مع خالقه، والجوانب الاجتماعية التي ترسّخ قيم التضامن، والتكافل، والمسؤولية المجتمعية، والجوانب الاقتصادية التي تضع معايير للعدالة في المعاملات المالية، وتحد من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والجوانب القانونية التي تنظم العلاقات بين الأفراد في المجتمع، بما يضمن تحقيق العدالة ورفع المظالم.
هذا التكامل بين أبعاد الدين المختلفة يمنح المجتمعات الإسلامية هوية متجذرة تعتمد على القيم المستمدة من الشريعة الإسلامية كمرجعية أساسية. هذه المرجعية توفر بوصلة أخلاقية ليس فقط للأفراد، بل للمجتمع ككل، مما يعزز التماسك الاجتماعي والترابط الأخلاقي. فهي تحدد معايير الخير والصلاح وتوفر منظومة قيمية مشتركة تدعم استقرار المجتمع وتحميه من التفكك.
على النقيض، العلمانية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ما يعني استبعاد الدين كمرجع أساسي للحياة العامة، سواء في صياغة القوانين أو إدارة شؤون المجتمع. هذا الفصل قد يكون فعالاً في سياقات ثقافية أو تاريخية معينة، لكنه في المجتمعات الإسلامية يطرح إشكاليات كبيرة. إذ إن الدين في هذه المجتمعات يشكل جزءاً جوهرياً من الهوية الثقافية والقيم الاجتماعية. فصل الدين عن الدولة في هذه الحالة قد يؤدي إلى فراغ أخلاقي يُضعف البنية القيمية للمجتمع، حيث لا يوجد بديل شامل يمكنه تعويض الدور الذي يلعبه الدين في توجيه الأفراد وحفظ وحدة المجتمع.
علاوة على ذلك، الفهم السطحي للعلمانية كوسيلة للتعايش قد يؤدي إلى تعميق الانقسام بدلاً من تحقيق التعايش. التعايش الحقيقي لا يتحقق بإقصاء الدين أو تهميش دوره، بل من خلال التوفيق بين القيم الدينية والممارسات السياسية في إطار يحترم تعددية الأديان والثقافات، ويعمل على تعزيز العدالة الاجتماعية. التوفيق هنا لا يعني هيمنة الدين على الدولة، بل إيجاد صيغة توازن تضمن الحفاظ على القيم المجتمعية من جهة، واحترام الحريات والحقوق الفردية من جهة أخرى.
التجربة التاريخية تثبت أن المجتمعات التي تمكنت من تحقيق الاستقرار والتقدم هي تلك التي نجحت في بناء منظومة متكاملة تحترم الخصوصيات الثقافية والدينية، وتستثمر القيم الأخلاقية لتحقيق العدالة والتنمية. ومن ثم، فإن إقصاء الدين عن المجال العام قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، حيث القيم الدينية هي الضامن الأساسي للتماسك والاستقرار.
السياسة كأداة لتحقيق القيم الأخلاقية وليست للهيمنة
الزعم بأن الإسلاميين يرفضون العلمانية بدافع السيطرة ينطوي على اختزال مخلّ لحقيقة العلاقة بين الدين والسياسة. السياسة في الإسلام ليست سوى وسيلة لتحقيق العدالة وبناء مجتمع يقوم على الفضائل الأخلاقية مثل الصدق والإخلاص.
تاريخياً، كانت الشريعة إطاراً يعزز العدالة الاجتماعية ويحفظ حقوق الجميع، بما في ذلك الفقراء والمحتاجين. على سبيل المثال، فكرة "البيعة" في الإسلام التقليدي تشير إلى وجود عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، حيث يُلزم الحاكم بالعدل ويُحاسب على أي انحراف عن هذا المبدأ. هذه العلاقة لا تعني هيمنة، بل ضمانة لحقوق الأفراد وتحقيق الخير العام.
فإذا نجحت العلمانية في مجتمعات تُشكِّل فيها الأديان مكونات منفصلة عن الهوية الوطنية، فإن تطبيقها في السياق الإسلامي، حيث يشكل الدين جوهر الهوية الثقافية والاجتماعية، قد يؤدي إلى تفكك أخلاقي واجتماعي.
في بعض التجارب العربية الحديثة، فرض العلمانية أدى إلى صراعات داخلية واستقطاب مجتمعي نتيجة تصادم القيم المجتمعية المتجذرة مع الأنظمة العلمانية المفروضة. لذلك، فإن الإقصاء التام للدين من المجال العام قد يضعف التماسك الاجتماعي، بينما التفاعل المدروس بين الدين والسياسة يمكن أن يكون عامل استقرار.
الحرية الدينية والإصلاح الأخلاقي في الإسلام
الإسلام دين يؤمن بحرية الاعتقاد ويعترف بحق كل فرد في اختيار عقيدته دون إكراه. هذا المبدأ يتجلى في قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وهو تأكيد واضح على أن الإيمان لا يمكن أن يكون حقيقياً إلا إذا كان نابعا من قناعة داخلية لا تخضع للإجبار أو الإكراه. ويعضد هذا المعنى قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29)، حيث يُمنح الإنسان حرية القرار بشأن الإيمان والكفر، مع تحمل مسؤولية اختياره.
إلى جانب احترام حرية الاعتقاد، يحمل الإسلام رسالة إصلاحية شاملة تهدف إلى تعزيز الخير والعدالة في المجتمع. هذه الرسالة لا تقتصر على الجانب الفردي، بل تمتد لتشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما يعكس شمولية الإسلام كنظام حياتي متكامل.
الإصلاح الأخلاقي في الإسلام ليس مجرد دعوة خطابية، بل هو منظومة عملية تُترجم إلى سلوكيات ومبادئ تنظم العلاقات بين الأفراد وتُرسخ قيم الأمانة، والصدق، والإحسان، ومساعدة المحتاجين، ومكافحة الظلم والفساد. الإسلام يدعو إلى بناء مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية من خلال التوزيع العادل للثروات، واحترام الحقوق، وحماية الضعفاء، مما يجعل الإصلاح الأخلاقي في صلب أي مشروع سياسي أو اجتماعي إسلامي.
والحكم في الإسلام ليس استبدادياً أو مطلقاً، بل يقوم على مبادئ أساسية تجعل من الحاكم خادماً للشعب ومسؤولاً أمام الله والمجتمع. أبرز هذه المبادئ:
الشورى: قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38)، وهو توجيه مباشر لاعتماد الشورى كمنهج في اتخاذ القرارات التي تخص الأمة. الشورى تضمن مشاركة المجتمع في إدارة شؤونه وتحد من التسلط الفردي.
العدل: العدالة في الإسلام ليست خياراً، بل واجب شرعي وركن أساسي في أي نظام حكم. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النحل: 90)، مما يجعل من العدل مرجعية أخلاقية وتشريعية في جميع المجالات.
المساواة: الإسلام يؤكد على المساواة بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الطبقية، حيث قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله): "النَّاسُ سَواسِيَةٌ كَأَسْنانِ المِشْطِ"، وهو مبدأ يحول دون استغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية أو التمييز بين الناس.
فعندما يدافع الإسلاميون عن حضور الدين في السياسة، فإنهم يؤكدون أن القيم الدينية تمثل ضميراً أخلاقياً يمنع الاستبداد والفساد ويضمن احترام حقوق الإنسان. الشريعة الإسلامية، على سبيل المثال، تقدم إطاراً تشريعياً يحمي حقوق الضعفاء، ويمنع استغلال السلطة، ويشجع على إدارة الموارد بعدل وإنصاف.
الإسلام إذن يحقق توازناً فريداً بين احترام حرية الفرد في اختيار عقيدته، وبين الدعوة إلى الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. هذه التوازنات تجعل من الإسلام نموذجاً متكاملاً يهدف إلى بناء مجتمع عادل ومتوازن يحترم التنوع ويعزز الخير. الإقرار بحرية العقيدة لا يعني تخلي الإسلام عن دوره في الدعوة إلى الإصلاح، بل إنه يضع إطاراً أخلاقياً يضمن أن يكون الإصلاح قائماً على التوعية والإقناع، وليس على الإكراه أو الوصاية.
وعليه، فإن التفاعل بين الدين والسياسة في السياق الإسلامي ليس تهديداً للتعايش، بل فرصة لتنظيم المجتمعات على أسس تحترم القيم وتحمي حقوق الأفراد.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م