2024-11-19 167
الروح والغيب: تحديات الإلحاد في تفسير الوعي الداخلي للإن
الشيخ مقداد الربيعي
عمل الإلحاد على تقديم نفسه كحليف للإنسان، مدافعاً عن حقوقه
وقضاياه، حاملاً راية تحريره من المخاوف والهواجس التي ألقت به في
قبضة الخرافة والجهل.
وفي هذا السياق، أصبح الإلحاد بمثابة شمس العلم التي تشرق على
البشرية بنورٍ جديد. وحسب هذا التصور، لا غنى للإنسان عن الإلحاد،
فهو العلم ضد الجهل، والحقيقة ضد الخرافة، والتحرر ضد العبودية،
والتقدم ضد الرجعية. وبذلك، يُصوَّر الإلحاد كأنه بشارة العلم ونبوة
الإنسان إلى ذاته.
وهنا نسأل، كيف يبني الإلحاد هذه الصورة الوردية لنفسه؟ وكيف يمكن
أن يكون الكفر بالإله هو ضمان الخلاص للإنسان؟ هل المادة وقانون
الانتقاء الطبيعي هما النور الذي يبدد الظلام؟
من المؤكد أن القيم مثل العلم، والحرية، والتقدم، وإنسانية الإنسان
تعلو على الخلافات والنقاشات، ولكن لا يمكن تأسيسها على ادعاءات
فارغة أو مزايدات. والإلحاد، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً باسم الإنسان،
عليه أن يثبت أنه يحمل في جذوره علاقة حقيقية مع الإنسان، وبعبارة
أخرى يجب أن يكون الإلحاد كفلسفة ورؤية للكون والوجود ذو صلة وثيقة
بقيمة الإنسان، بحيث لا يمكن تصور قيمة للإنسان دون أن يكون الإلحاد
جزءاً منها. وبهذه الطريقة يتجاوز الإلحاد الامتحان الفلسفي ويثبت
جدارته في أن يكون عنواناً لمرحلتنا التاريخية، أما الشعارات
والدعاية والإعلام ليست كافية لطرح الحقائق المصيرية.
من هنا، كان من الضروري تفكيك العلاقة بين تلك القيم وبين الإلحاد،
كما يجب أن تتم المقارنة بين الدين والإلحاد بناءً على العلاقة
الضرورية والحتمية التي يقدمها كل منهما لمفاهيمه الفلسفية والقيم
الإنسانية التي يدافع عنها.
تنطلق رؤية الإلحاد - في أحسن حالاتها - فيما يتعلق بوجود الإنسان
من مبدأ قديم يعود إلى ملايين السنين، حيث تُعزى بداية الحياة إلى
خلية واحدة نشأت في بيئة مائية آسنة، فالحياة عندهم بدأت نتيجة
تفاعلات كيميائية عشوائية في ظروف معينة، ثم تطورت تدريجياً عبر
الزمن. ولكن السؤال الأساسي الذي يطرحه الكثيرون هو: كيف يمكن
للمادة الميتة أن تُنتج حياة؟ وكيف يمكن لعنصر غير حي، مجرد مجموعة
من الذرات والجزيئات، أن يتحول إلى كائن حي يمتلك وعياً وإدراكاً؟
هذه الأسئلة الجوهرية لا تشغل بال الإلحاد، ولا يُقدّم إجابة شافية
حول كيفية نشوء الحياة نفسها من المادة غير الحية. فهو يتجنب الغوص
في عمق الأسئلة الفلسفية والعلمية التي تتعلق بكيفية تحول المادة
الميتة إلى كائن حي يتمتع بالوعي. وعلى الرغم من تطور الحياة عبر
مراحل متعددة، يبقى السؤال المفتوح: ما الذي جعل الخلايا الأولية،
التي كانت مجرد مركبات كيميائية، تتحول إلى كائنات حية ذات خصائص
معقدة كالتفكير والإحساس؟ هذا هو التحدي الذي يظل يواجه النظرة
المادية للإلحاد.
يعتقد الإلحاد أن التحول البشري بدأ مع مرحلة الثدييات، التي
تُعتبر الجد الأوسط للإنسان بعد الخلية الواحدة. من بين هذه
الثدييات، نشأ طور محدد جمع بين الإنسان والقرد في أصل واحد، ثم شق
كل منهما طريقه في التطور، حتى أصبح الإنسان الذي نعرفه، بينما ظل
القرد على حاله في الغابة. هذا التحول التطوري لا يحكمه سوى قانون
واحد: "البقاء للأصلح"، أو "الاصطفاء الطبيعي".
ما يهمنا هنا ليس الدخول في نقاش حول صحة أو خطأ هذه النظرية، لأن
هذا المجال يتعلق أساساً بعلماء الأحياء والبيولوجيا. بل إن ما
نلاحظه هو أن دخولنا في هذا النقاش هو بالضبط ما يسعى إليه الإلحاد،
حيث يقوم بتوجيه الحوار نحو النقاش علمي معقد لا ربط له من الأساس
بالسؤال عن علة الوجود والحياة،. وما ذكره فيلو في كتابه "هناك إله"
يعد خير دليل على ذلك، حيث يقول: "في عام 2004م، قلت بأن أصل الحياة
لا يمكن تفسيره إذا بدأنا بالمادة فقط. رد المنتقدون بروح المنتصر
قائلين بأنني لم أقرأ قط مقالاً في مجلة علمية ولا تابعت التطورات
العلمية الحديثة المتعلقة بالتولد التلقائي. هم بهذا النقد لم
يفهموا الهدف الرئيسي من كلامي، فاهتمامي لم يكن منصباً على هذه
الحقيقة أو تلك في الكيمياء أو في علم الجينات، بل كان اهتمامي
منصباً على السؤال الرئيسي عن معنى أن يكون شيء ما حياً، وما علاقة
ذلك بالحقائق الكيميائية والجينية ككل. أن تفكر على هذا المستوى،
فأنت تفكر كفيلسوف".
لنفترض الآن صحة النظرية التطورية ونسلّم بأن الإنسان هو نتاج
الطبيعة، بناءً على التفاعلات الكيميائية والفيزيائية التي نشأت عبر
ملايين السنين. في هذه الحالة، يمكن للنظرية التطورية أن تقدم
تفسيراً معقولاً للجانب المادي والطبيعي للإنسان، فتشرح كيف تشكلت
خصائصه الجسدية، ووظائفه البيولوجية، وكيف تطورت أنماط سلوكه عبر
الزمن. ومع ذلك، تظل النظرية عاجزة في تقديم أي تفسير لجانب المعنى
في الإنسان.
الجانب الروحي لا يتعلق فقط بوجود الإنسان ككائن مادي، بل يتعلق
بالوعي، والإدراك، والفهم، والمعنى. هذه الظواهر لا يمكن أن تُفسر
فقط من خلال تفسير بيولوجي أو كيميائي. إن الإنسان لا يشعر فقط
بوجوده، بل يشعر أيضاً بوجوده في علاقة مع الكون، مع ذاته، ومع
الآخرين. مشاعر مثل الحب، والأمل، والعدالة، والإبداع، لا يمكن
تفسيرها بشكل كامل من خلال العمليات المادية البحتة. هذه التجارب
الإنسانية العميقة لا تُقاس بالمعايير الكيميائية أو الفيزيائية.
الإلحاد، الذي يسعى إلى إلغاء البعد الروحي من الإنسان ويركز فقط
على المكونات المادية، يجد نفسه في مواجهة مع حقيقة معقدة للغاية.
على الرغم من محاولاته اختزال الوجود البشري إلى مجرد تفاعلات
فيزيائية، إلا أنه لا يستطيع تفسير الفهم العميق الذي يمتلكه
الإنسان بشأن ذاته ووجوده. الوعي الذاتي، الذي يُتيح للإنسان أن
يدرك وجوده ويعبر عنه من خلال اللغة والفكر، يظل أمراً يتجاوز مجرد
العمليات البيولوجية. فالفهم والإدراك ليسا مجرد مخرجات لتفاعلات
كيميائية، بل هما تجارب تتصل بالمعنى والغاية.
الإلحاد، عندما يغرق في المادية إلى هذا الحد، يحمل في طياته بذور
زواله. كيف يمكن للفكر أن يكون دليلاً على الإلحاد بينما المادة لا
يمكنها إنتاج الفكر؟
وعليه، يفشل الإلحاد في تقديم تفسير مقنع لهذا الوعي الداخلي بالروح
الذي يشعر به الإنسان في أعماق نفسه، فمهما حاولت النظريات العلمية
أن تشرح الوجود والتطور والتفاعلات المادية التي تحكم الكون، فإنها
تظل عاجزة عن تفسير ذلك الشعور الغامض الذي يشعر به الإنسان تجاه
الروح والجوانب الغيبية التي تتجاوز حدود المادة. يمكن للعلم أن
يقدم تفسيرات مادية للتفاعلات البيولوجية، لكنه لا يستطيع أن يقدم
إجابة شافية عن ذلك النداء الداخلي العميق الذي يدفع الإنسان إلى
البحث عن معنى لحياته وعن تفسير لوجوده. ذلك الوعي الذي يتجاوز حدود
الجسد المادي ليظل مفتوحاً على الغيب.
فالإنسان بطبيعته يميل إلى البحث عن غايات أعلى من تلك التي
توفرها المادة، ولا يستطيع أن يملأ هذا الفراغ بالعلوم أو القيم
المادية وحدها. إنه يبحث عن علاقة مع عالم غيبي، وعن أفق واسع يشبع
الروح ويمنحها معنى، وهذا ما يعجز الإلحاد عن تقديمه. فالغيب، في
هذا السياق، ليس مجرد شيء مجهول أو بعيد عن التفسير العلمي، بل هو
مصدر الحياة الروحية التي تغذي الروح وتمنحها الاطمئنان.
فمن منظور النفعية البحتة، يمكننا أن نرى أن الدين يمثل ضرورة
إنسانية تتجاوز مجرد الطقوس أو المعتقدات، ليكون جزءاً من الرفاهية
النفسية والروحية للإنسان، فالدين يساهم في تحقيق السعادة النفسية
والروحانية للإنسان، فمضافاً إلى كونه يعمل على بناء مجتمع أخلاقي
فإن الدين أيضاً يمثل تجربة شخصية عميقة تنبع من حاجته إلى إيجاد
معنى للحياة، وفي المقابل لا يمكن العثور على تفسير كافٍ لمعنى
الحياة والمشاكل التي تواجهها في سطور الفلاسفة الملحدين. فالفكر
المادي، رغم طموحاته، لا يستطيع أن يملأ الفراغ الروحي الذي يشعر به
الإنسان ولا يمكنه أن يجيب عن الأسئلة العميقة التي يطرحها الوجود
والغاية من الحياة.
وفي الختام الإنسان ليس مجرد مادة تتفاعل في صمت الكون، بل هو كائن حي ذو روح يسعى نحو الفهم والتواصل مع القيم العليا. ومن هنا، تبقى الحقيقة أن الدين والروح ضرورة لا يمكن استبدالها أو تجاهلها في سعي الإنسان لتحقيق السلام الداخلي والطمأنينة.
انتوني فلو ترجمة صلاح الفضلي هناك إله الناشر المترجم دولة الكويت تاريخ الطبع 2015م، ص 108
الأكثر قراءة
25874
18682
13874
10739