6 شعبان 1446 هـ   5 شباط 2025 مـ 6:55 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2024-12-29   1234

بين لوحة القدر وفرشاة الاختيار: الأمر بين الأمرين منطق قرآني وفطرة بشرية؟!!

باسم الحلي
لقد ألقى القدر بشابٍ وفتاةٍ في دوامة الحب، فإذا بهما ينجذبان لبعضهما بلا سابق معرفةٍ أو تخطيط، كأن قوةً خفيةً تسيرهما نحو هذا المصير. فهل هما في هذه الحالة مسيران أم مخيران؟

إن الإجابة ليستْ بيسيرة، فبينما يجتاحهما انجذابٌ لا إرادي، كأنهما رسما في لوحة القدر، إلا أن لكلٍ منهما حرية الاختيار في الابتعاد، وإنْ كان في هذا الابتعاد ألمٌ يعتصر القلب. فالعلاقة وإنْ نشأتْ بلا اختيار، إلا أنها لا تلغي قدرة كلٍ منهما على الانفصال.

وهكذا يتجلى لنا أن الحب حالةٌ بين بين، تجمع بين التسيير والتخيير، فكأن القدر يرسم الخطوط العريضة، ويترك للإنسان حرية التلوين ضمنها. إنه تسييرٌ لا يلغي التخيير، وتخييرٌ مقيدٌ بقدرٍ من التسيير.

كذلك في الصداقة: ترى ما سر تلك العرى الوثيقة التي تربط بين صديقين، كأنهما نسجا خيوطها في عالم الأرواح قبل أنْ يلتقيا في عالم المادة؟ لو سألتهما عن سر هذا الانسجام، لأجابا: "وجدنا أنفسنا في بعضنا، بلا تخطيطٍ أو قصد، كأنما كنا نشْكل روحًا واحدةً قسمتْ نصفين".  ولكن، مهما بلغتْ قوة هذه الروابط، فإنها كسائر الأشياء في هذا الكون، قابلةٌ للزوال. فقد تخمد نار الود، وتفترق الدروب، فيصبح كلٌ منهما غريبًا عن الآخر، كما لو أن يد القدر قدْ خطتْ نهاية هذه القصة.

وكذا لا تختلف الأمومة عما سبقها: إنها نغمةٌ تعزف على أوتار الفطرة، لحنٌ يولد مع كل مولود. فالأم السوية تغدق على فلذات كبدها حنانًا وعطفًا لا يمكن وصفه، كأنها شجرةٌ تثمر حبًا لا ينضب. ولكن، في بعض الأحيان، قدْ تجبرها ظروف الحياة القاسية على التخلي عن فلذات كبدها، فتصبح الأمومة جرحًا نازفًا في قلبها. وهكذا، تتجلى لنا حقيقة أن الإنسان ليس مسيرًا بالكامل، بلْ يملك خيطًا من التخيير، وإنْ كان هذا الخيط رفيعًا في بعض الأحيان.

بل حتى في عالم الحيوان، حيث تسود غريزة البقاء، نجد أن التضحية قدْ تكون خيارًا لا مفر منه. فلبوة الأسد، التي تعرف بشراستها في الدفاع عن صغارها، قدْ تضطر إلى التخلي عن بعضهم لضمان بقاء الآخرين. إنها صورةٌ مؤثرةٌ تظهر أن قسوة الحياة قدْ تجبر الكائنات على اتخاذ قراراتٍ صعبة، حتى لو كانتْ هذه القرارات تناقض فطرتها.

إن افتراض الإنسان مجرد آلةٍ تنفذ أوامر مبرمجةً سلفًا، يلغي المسؤولية الأخلاقية والفردية، ويهدم أسس العدالة التي بنيتْ عليها الحضارات. فالقوانين -سماويةً كانتْ أو وضعيةً- تقر بوجود إرادةٍ حرةٍ لدى الإنسان، تمكنه من الاختيار بين الخير والشر، وتجعله مسؤولًا عنْ أفعاله. فالمجرم يعاقب لا لكونه مجرد أداةٍ، بلْ لأنه اختار بملء إرادته انتهاك القانون. أما منْ سلبتْ إرادته كالمجنون، فلا يحاسب على أفعاله، لانتفاء شرط الاختيار.

في الطرف المقابل، لا يمكن إنكار تأثر الإنسان بالعوامل المحيطة به، سواءً أكانتْ ماديةً أمْ روحيةً. فجيناته، وبيئته، وثقافته، وحتى أفكاره ومشاعره، تشكل دوافعه وتؤثر في قراراته.  فالإنسان يولد في ظروفٍ لمْ يخترْها، وينشأ في بيئةٍ تؤثر في تكوينه، وهذا التأثير لا يلغي حريته تمامًا، بلْ يحدد إطارها. فمثلًا، قدْ ولد الإنسان في أسرةٍ محبةٍ، وهذا يؤثر إيجابًا في شخصيته، لكنه لا يمنعه من اتخاذ قراراتٍ خاطئةٍ.

وخلاصة القول: إن الإنسان ليس مجرد آلةٍ صماء، ولا هو كائنٌ مستقلٌ تمامًا عن محيطه. إنه يقع في منطقةٍ وسطى، حيث تتفاعل الإرادة الحرة مع العوامل المؤثرة، ليشكل بذلك مسار حياته. إنه مسيرٌ في بعض الجوانب، ومخيرٌ في جوانب أخرى، وهذه هي حقيقة وجوده المعقد.

إلغاء الاختيار بالاختيار:
الإنسان يملك قدرةً عجيبةً على إلغاء حريته بنفسه! فكلما تمادى في طريق الخطيئة والانغماس في الشهوات، كلما ضيق على نفسه مساحة الاختيار، حتى يصبح أسيرًا لرغباته، مسلوب الإرادة، عاجزًا عن التحرر.  ومثال متعاطي الحشيش واضحٌ في ذلك، فهو يبدأ مختارًا، ثم يصبح مسيرًا، وقدْ ينتهي به الأمر إلى الموت أو الجنون، بعد أنْ ألغى اختياره بالاختيار!

وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم اسْتحبوا الْحياة الدنْيا على الْآخرة وأن الله لا يهْدي الْقوْم الْكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهمْ وسمْعهمْ وأبْصارهمْ وأولئك هم الْغافلون﴾ (سورة النحل: 108).  فمنْ آثر متاع الدنيا الزائل على نعيم الآخرة الباقي، فقدْ حكم على نفسه بالضلال، وسد على نفسه أبواب الهداية، فطبع على قلبه، فصار كالأعمى والأصم الذي لا يبصر الحق ولا يسمع الهدى. ومنْ أبرز الأمثلة على ذلك، الطغاة الذينْ استحبوا الظلم والفساد، فسفكوا الدماء، وانتهكوا الحرمات، فطبع الله على قلوبهمْ، وأصبحوا غافلين عن الآخرة، كما قال تعالى: ﴿فبما نقْضهمْ ميثاقهمْ وكفْرهمْ بآيات الله وقتْلهم الْأنْبياء بغيْر حقٍ وقوْلهمْ قلوبنا غلْفٌ بلْ طبع الله عليْها بكفْرهمْ﴾ (النساء: 155).

وفي المقابل، فإن الذين اهتدوا إلى طريق الحق، زادهم الله هدىً، وأعطاهمْ تقواهم، فارتقتْ اختياراتهمْ إلى أعلى مراتب الكمال والجمال، كما قال تعالى: ﴿والذين اهْتدوْا زادهمْ هدًى وآتاهمْ تقْواهمْ﴾.
أما الذين غلبتْ عليهمْ شقوتهمْ، كما في قوله تعالى: ﴿ألمْ تكنْ آياتي تتْلى عليْكمْ فكنْتمْ بها تكذبون، قالوا ربنا غلبتْ عليْنا شقْوتنا وكنا قوْمًا ضالين﴾ (المؤمنون: 106)، فإنهمْ قدْ أدمنوا العناد والفساد، حتى سلبوا أنفسهمْ حرية الاختيار، فصاروا كمنْ طبع على قلبه.

ختامًا: إن الإنسان مسؤولٌ عنْ اختياراته، وعليه أنْ يحسن استخدام حريته، وأنْ يسعى إلى الارتقاء بها، فكلما اختار الخير، زاده الله خيرًا، وكلما اختار الشر، حكم على نفسه بالضلال.

الأمر بين الأمرين في القرآن الكريم:

كثيرة هي الآيات الكريمة التي تبين حقيقة الأمر بين الأمرين في القرآن الكريم، فالله تعالى يقول: ﴿إنا هديْناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا﴾ (الإنسان: 3)، ويقول أيضًا: ﴿وهديْناه النجْديْن﴾ (البلد: 10).  وهذا يدل على أن الله تعالى قدْ هيأ للإنسان سبل الخير والشر، وجعل له الخيار بينهما، فهو مخيرٌ في أنْ يسلك طريق الشكر والامتنان، أوْ طريق الكفر والجحود، فهو قادرٌ على أنْ يترجم ما يشاء من أفعاله إلى واقع، سواءً كان ذلك خيرًا أمْ شرًا، جمالًا أمْ قبحًا، عدلًا أمْ ظلمًا.

ولكنْ، هذا التخيير لا يتعارض مع قضاء الله وقدرته، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان ووهبه القدرة على الاختيار، وهو الذي يسير الكون كله بحكمته.  فقوله تعالى: ﴿إنا هديْناه السبيل﴾، يشير إلى أن الله تعالى قدْ غرس في ذات الإنسان استطاعة الاختيار، وقدرة ترجمتها في الأفعال.  فلوْ لمْ يكن الإنسان يملك هذه القدرة، لما استطاع أنْ يوجد أي شيءٍ، ولما كان مسؤولًا عنْ أفعاله.

وفي حديث الإمام الرضا (عليه السلام) الذي رواه الوشاء، نجد توضيحًا لهذه المسألة، حيث يقول الإمام (عليه السلام): «يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».  وهذا الحديث يؤكد أن الله تعالى هو الذي وهب الإنسان القوة والقدرة على الفعل، سواءً كان ذلك الفعل خيرًا أمْ شرًا، ولكن الإنسان هو المسؤول عن اختياره، فهو الذي يختار أنْ يستخدم هذه القوة في طاعة الله أوْ في معصيته.
وعليه فالإنسان مخيرٌ في أفعاله، ولكن هذا التخيير لا يتعارض مع قضاء الله وقدرته، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان ووهبه القدرة على الاختيار، وهو الذي يسير الكون كله بحكمته.  وعلى الإنسان أنْ يحسن استخدام هذه النعمة، وأنْ يختار طريق الخير والطاعة، ليكون من الشاكرين، وينفع نفسه وينفع الناس.

لماذا الأمر بين الأمرين؟
الإجابة عنه تكمن في أن القول بالتخيير المطلق، كما ذهب إليه المعتزلة، أو التسيير المطلق، كما ذهب إليه الأشاعرة، كلاهما يفضي إلى نتائج غير مقبولةٍ عقلاً ونقلاً.  فالأمر بين الأمرين هو الحل الوسط الذي يحقق التوازن بين قدرة الله تعالى وإرادة الإنسان.

الأول: استحالة التخيير المطلق (الرد على المعتزلة):

هل يمكن أن نفترض عمل جهاز الراديو بلا كهرباء ؟!!.
تشغيل جهاز الراديو، وإن كان تحت اختيار الإنسان، لكن ليس بالمطلق؛ لاحتياج إيصاله بالكهرباء، سلكياً أو لا سلكياً ..؛ فالله تعالى وإنْ خلق الإنسان مختاراً، لكنه لا يعمل بلا  كهرباء، في كل لحظات أفعاله الاختيارية؛ فإن انقطعت عنه الكهرباء، أصيب بالشلل أو الموت. 
لا يمكن تصور الأمر بين الأمرين باختيار الإنسان لأفعاله، من دون اتصاله بمصدر الطاقة الإلهي، وإلا فهو مشلول أو ميت؛ يوضحه أن الإنسان غير مختار لبقاء الكهرباء في جسمه عند الموت، الأمر الذي يكشف أن وجودها فيه منذ البداية، خارج عن اختياره، كما أن فقدانه لها خارج عن اختياره.

الثاني: بيان عدل الله (الرد على الأشاعرة):

أما القول بالتسيير المطلق، فهو يناقض عدل الله تعالى وحكمته. فلوْ كان الإنسان مسيرًا مجبرًا على أفعاله، لما كان مسؤولًا عنها، ولما كان هناك معنىً للعقاب والثواب.  فالله تعالى لا يعاقب الإنسان على ما لا قدرة له عليه، ولا يثيبه على ما لمْ يخترْه بملء إرادته.

خلاصة القول:

إن القول بالأمر بين الأمرين هو الذي يحقق التوازن بين قدرة الله تعالى وإرادة الإنسان، ويبين عدل الله وحكمته. فالإنسان مخيرٌ في أفعاله، ولكن هذا التخيير مقيدٌ بقدرة الله تعالى ومشيئته.  وعلى الإنسان أنْ يدرك هذه الحقيقة، وأنْ يسعى إلى استخدام حريته في طاعة الله ومرضاته، ليكون من الشاكرين الفائزين.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م