23 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 12:57 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-11   102

"لماذا جعلت الأمر غامضًا؟" تساؤلات داوكنز وإشكالية الاختلافات الدينية


مقداد الربيعي

في الفيلم الوثائقي "المطرودون" الذي يتناول نبذ المجتمع الأكاديمي الغربي للعلماء القائلين بنظرية الخلق رغم اعتمادهم في ذلك على أدلة أخذت بأعناقهم لهذه النتيجة، يسأل المقدم زعيمَ حركة الإلحاد الجديد "ريتشارد داوكنز" عن حاله فيما لو تبين بعد وفاته أن هناك إله؟ فأجاب، سأسأله: لماذا جعلت الأمر غامضاً؟

 

من أكثر الإشكاليات التي أُثيرت على مر العصور حول الأديان هي تلك التي تتعلق بتعددها واختلافاتها البينية. تقوم هذه الإشكالية على أن الأديان تتناقض تناقضًا كبيرًا فيما بينها، حيث يدّعي أتباع كل دين أنهم وحدهم على الحق، وأن ما عداه من الأديان باطل يستوجب الهلاك. وبذات الوقت، يؤكد أتباع كل دين أن دينهم هو الوحيد الذي أنزله الله ويمثل إرادته، بينما تُعد الأديان الأخرى زائفة لا تقود إلا إلى غضب الله.

 

العالم مليء بالأديان التي تختلف في أشكالها وأصنافها وتتناحر فيما بينها. وهذا يجعل من الصعب على الإنسان أن يبحث في جميعها ليصل إلى الحقيقة. الأمر لا يقف عند الأديان فحسب؛ بل إن الدين الواحد قد يحتوي على عشرات المذاهب والفرق، مما يجعل الوصول إلى الصورة الصحيحة لأي دين أمرًا متعذرًا على القدرة الإنسانية. وإن كان هناك بعض الناس الذين يستطيعون البحث والتدقيق، فإن الغالبية العظمى من البشر لا يمتلكون هذه الإمكانية. فكيف يُطلب من الجميع اختيار الدين الصحيح إذا كانوا عاجزين عن ذلك؟

 

بل إن المشكلة تتعمق حينما نجد أن أتباع الأديان لم يتفقوا حتى على حقيقة الإله الذي يعبدونه. فكل دين يقدم صورة مختلفة للإله عن تلك التي تقدمها الأديان الأخرى. فإذا كان الإله موجودًا حقيقة كما يدعي أتباع الأديان، فلماذا وقع هذا الاختلاف الكبير حول طبيعته وصورته؟

 

 

هذه التعددية والاختلاف تثير تساؤلات حول الحكمة الإلهية. إذا كان الدين يمثل أعظم غاية وُجد الإنسان من أجلها، ويهدف إلى هداية الناس وإرشادهم إلى الطريق الصحيح في عبادة الله، فكيف يمكن أن يكون بهذه الصورة الغامضة والمتعذرة على الفهم؟! إذا كان الله حكيمًا، أليس من الحكمة أن يكون الدين واضحًا يسهل الوصول إليه؟!

كما قال جان جاك روسو«كيف يليق بالإله الحكيم أن يضع عباده في حيرة عظيمة كهذه؟» انظردين الفطرة، ص91-93.

وأيضًا أشار فرويد في محاضرات جديدة في التحليل النفسي إلى تأثير هذه الحيرة في زعزعة الإيمان (ص201). بينما تناول ول ديورانت في قصة الحضارة هذه الإشكالية من زاوية تأثيرها على الحضارات (27/367)، وأوضح دوكنز في وهم الإله أن هذه الحيرة كانت من أبرز ما استند إليه الإلحاد (ص33، 346).

 

كما استخدم هذه الحجة التيار الربوبي لتشكيك الناس في صحة الأديان الموحى بها، ودعوتهم إلى الاقتصار على استخدام العقل المجرد أو الضمير الإنساني كمرشد. كما اعتمد عليها التيار الإلحادي للتشكيك في وجود الله والقدح في كماله، تمامًا كما طرحها أبو بكر الرازي قبل أكثر من ألف عام. انظرأعلام النبوة، ص66.

نقد الإشكالية

رغم انتشار هذه الإشكالية، إلا أنها مبنية على مقدمات غير صحيحة ومسلمات لا برهان عليها، وينتج عنها لوازم باطلة تؤدي إلى إحداث اضطراب في المعرفة الإنسانية. ومن أبرز النقاط التي تفند هذا الاعتراض:

أولاً: كثرة الاختلاف لا تعني بطلان الحقيقة القول بأن كثرة الاختلاف دليل على بطلان الأديان أمر غير صحيح. الاختلاف لا يعني فساد الشيء، بل قد يكون نتيجة لأهميته. كما نجد ذلك في علوم كثيرة مثل الفلسفة، التي اشتهرت بتنوع مدارسها واختلاف تياراتها. كما قال توفيق الطويل في أسس الفلسفة(ص217).: «الاختلاف سمة الفلسفة الكبرى».

وكذلك الحال في علم الأدب، فإن المذاهب الأدبية بلغت من الاختلاف مبلغا عظيما جداً، ولو طردنا ما يقتضيه ذلك الاعتراض؛ لحكمنا عليه بالبطلان، وطالبنا الناس تركها والابتعاد عنها، وكذلك الحال في حقيقة الجمال، فإن الناس اختلفوا في حقيقته كثيرًا، وذهبت بهم الآراء كل مذهب فلو اطردنا مع ما يقتضيه ذلك الاعتراضات لانتهى بنا الأمر إلى الحكم على الجمال ـ وهو حقيقة وجودية - بالبطلان والخرافة.

بل إن العلم التجريبي ذاته لا يسلم من سعة دائرة الاختلاف وتضخم الشقة بين مذاهب أتباعه وشدة التناقض بين اتجاهاته.

وأما علم الأخلاق، فإن المطالع للمؤلفات المختصة فيه يجد فيها من الاختلاف والتناقض ما يعد كبيرًا بالنسبة إلى طبيعة العلم نفسه، وقد ذكر جوستاف لوبون أن «الباحثين في الأخلاق لم يقدروا على أن يقيموا ما هو ثابت منها، والدليل على ذلك ما تصيره من الفوضى العميقة التي لا تزال بادية في الوقت الحاضر حول هذا الموضوع القديم». حياة الحقائق (۸۱).

 وذكر «أن عددًا من كبار علماء الأخلاق اجتمعوا في مؤتمر فما كان من تناقضاتهم في معظم المسائل الأساسية وارتباكهم حولها، يثبت مقدار الفوضى التي تفرق بين النفوس في الزمن الحالي».، المرجع السابق (۸۱). ثم ختم حديثه «بأن البحث في مجال الأخلاق يعيش ضوضاء أدمغة». انظر: المرجع السابق (۸۳).

ويقول الفيلسوف المعاصر طه عبد الرحمن مؤكدًا الكلام السابق: «وإذا كان الالتباس أو الاختلاف لا يدخل على مفهوم العقلانية وحده، بل يكاد أن يتطرق إلى أغلب معاني الفلسفة وحقائقها، فلعله ليس في أبواب الفلسفة المعاصرة باب حملت مفاهيمه وأحكامه من مظاهر الاشتباه والاختلاط ما حمله باب الأخلاقيات». سؤال الأخلاق (١٥).

 

فكل هذه المجالات سنحكم عليها بناءً على طريقة تفكير الناقدين للأديان بالبطلان والفساد؛ لكونها تتصف بكثرة الاختلاف والتناقض بين أتباعها، وكفى بهذا اللازم كشفًا لبطلان تلك الدعوى.

 

ثانياً: هذه الإشكالية تعتمد على فرضية مغلوطة مفادها أن الوصول إلى الحقيقة المطلقة يستلزم بالضرورة إبطال جميع المواقف المعارضة لها. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن كثرة التناقضات بين أتباع الأديان تجعل من المستحيل الوصول إلى الدين الحق، وذلك لأن التحقق من صحة أو بطلان جميع هذه التوجهات الدينية أمر يتجاوز قدرة الإنسان. لكن هذا الافتراض ليس له أساس منطقي أو برهاني، بل يناقض بديهيات التفكير السليم.

إن الاقتناع بصحة قضية ما لا يتطلب الإحاطة الكاملة بكل ما يعارضها أو يتناقض معها، بل يكفي الوقوف على أدلة واضحة وقاطعة تثبت صحة هذه القضية. فالحقائق تُثبت بإثبات أدلتها ولا تحتاج إلى دحض كل الاحتمالات المخالفة لها. إن اشتراط إثبات بطلان جميع المعارضات للوصول إلى الحقيقة يؤدي إلى تعطيل التفكير وإغلاق الأبواب أمام المعرفة، وهو شرط لا يمكن لعاقل أن يقبل به.

كما أن القاعدة المنطقية تؤكد أن البرهنة على صحة قضية ما كافية لإثبات صدقها، ولا تستلزم إثبات فساد جميع الآراء المخالفة. فمثلًا، إذا واجه شخص مائة طريق واكتشف بدليل قاطع أن أحدها يقوده إلى غايته، فإنه لا يلزمه أن يتحقق من بطلان بقية الطرق جميعها، بل يكفي أن يثبت له بالدليل صحة الطريق الذي سلكه. إن هذا النهج العقلاني هو الأساس في التفكير المنطقي، حيث يُنظر إلى صحة أي موقف بناءً على أدلته، وليس على بطلان المواقف الأخرى. كما قال قطب الدين الرازي في تحرير القواعد المنطقية: "الاستدلال على صحة القضية ببطلان نقيضها وعلى بطلان نقيضها بصحتها" (ص119). وأكد على ذلك عبد الرحمن الميداني في ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة (ص151).

 

وفي الختام..الإشكالية القائمة على كثرة الاختلافات في الدين هي إشكالية تحمل في طياتها الكثير من النقاط التي تحتاج إلى مراجعة. الاختلاف ليس دليلًا على فساد الدين، بل يعكس طبيعة البشر وتنوع أفهامهم. كما أن الطريق إلى الحقيقة ليس متعذرًا كما يُصور، بل يحتاج إلى عقل متفتح وقلب باحث عن الحق.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م