23 رجب 1446 هـ   22 كانون الثاني 2025 مـ 1:22 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-01-15   60

أزمة فهم: هل الأديان تقود إلى التقليد أم إلى القناعة؟

الشيخ مقداد الربيعي

ظاهرة "القطيع" أو "تأثير الجمهور" هي ظاهرة متأصلة عند البشر، ويراد بها ميل الأفراد إلى اتباع قرارات أو سلوكيات المجموعة التي ينتمون إليها أو يتأثرون بها، حتى لو لم تكن تلك القرارات مبنية على منطق أو أدلة قوية.

ولها أمثلة كثيرة في المجتمع، مثل ما يقوم به المستثمرون من شراء أو بيع للأسهم بناءً على تصرفات الأغلبية، ما قد يؤدي إلى ارتفاع أو انخفاض الأسعار بشكل غير مبرر.

ومثل انتشار فكرة أو وسم (هاشتاغ) بشكل واسع بسبب التفاعل الجماهيري معه، حتى لو لم يكن له أهمية كبيرة.

أو تبني أساليب أو سلوكيات معينة في المجتمع فقط لأن الجميع يفعلها، مثل اتباع صيحات الموضة أو اختيار منتج معين لأنه "الأكثر شهرة".

 

ورغم ما يثبته التاريخ بصورة واضحة من محاربة الأديان  وخصوصاً الإسلام لهذه الظاهرة وجميع مظاهر التقليد الأعمى، إلا أننا نجد في كلمات الملحدين اتهام لأتباع الأديان به، فالدين عند الناس لا يقوم على الاختيار والقناعة الشخصية، وإنما على التقليد والتبعية الجغرافية أو العائلية، فالشخص لا يقوم بنفسه باختيار الدين الذي يقنعه وإنما يحدد دينه بناء على طبيعة البلد الذي ولد فيه والأسرة التي ولد فيها، فلو ولد الإنسان في الهند فلن يكون مسيحياً ولا مسلماً وإنما سيكون هندوسياً، ولو ولد في عائلة يهودية، فلن يكون إلا يهودياً، ولو ولد في مكة فلن يكون إلا مسلماً.

 

فالهندوسي اختار دينه للأسباب نفسها التي اختار المسلم دينه بسببها، ومع ذلك يحكم أهل الأديان بعضهم على بعض بالهلاك والعذاب، فالمسلم يؤمن بأن الإسلام هو الدين الصحيح، ويحكم على أتباع الأديان كلها بالكفر والعذاب في النار، مع أنه لم يختر الإسلام بنفسه ولو أن والده كان هندوسياً لكان مثله!

فالأديان إذن لا تقوم على القناعة والفهم والتأمل وإنما على التقليد والتبعية. انظر دين الفطرة، جان جاك روسو، ص92، ووهم الإله، دوكنز، ص240.

 

وهذا الاعتراض ليس جديداً على الفكر الديني، فقد طرحه أبو بكر الرازي قبل أكثر من عشرة قرون وتناوله عدد من علماء الإسلام بالدرس والتحليل والنقد. انظر أعلام النبوة أبو حاتم الرازي (40 - 42) .

 

وقد غفل هؤلاء ان اشكالهم يخلو من أي اعتراض على صحة الدين وليس فيه ما يبطله، بل ان غاية ما يدعو اليه هو ضرورة التحقق من صحته، وعدم الاكتفاء بتقليد الآباء. وهذا عين ما يدعو اليه الإسلام، فالقرآن الكريم مليء بالدعوة لترك تقليد الآباء وإعمال العقل، كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ . وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)، البقرة: 170 ـ 171.

ويكفي أن جميع الأنبياء عليهم السلام مثلوا حركات ثورية ضد معتقدات وسلوكيات مجتمعاتهم المنحرفة، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، المائدة: 104.

 

لذا أجمع علمائنا على حرمة التقليد في أصول العقائد ووجوب إقامة الحجة عليها من قبل المكلف، فالمسلم الملتزم بدينه ليس معزولاً عن الأدلة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه واله وسلم وصدق ما جاء به، بل لا يمكنه أن ينعزل عنها؛ لكونه يقرأ القرآن ويستمع إليه، ويحضر مجالس العلم والذكر التي يُشرح فيها أصول الإسلام وأحكامه وتذكر فيها الأدلة والبراهين على ذلك.

فحال المسلم ليس كحال غيره من أهل الأديان الذين يعيشون انقطاعاً كبيراً عن مصادر دينهم، فضلًا عن أنه ليس لديهم عبادات وأوراد يتلقون فيها أدلة دينهم ويستمعون إلى البراهين التي يقوم عليها.

وإذا وجدنا بعض المسلمين في الواقع جاهلاً بتعاليم دينه، أو وجدنا بعض علماء المسلمين مقصرًا في بيان الأدلة المصححة لدين الإسلام، فإن ذلك ليس عيباً في الإسلام نفسه، وإنما هو عيب في بعض المسلمين المقصرين.

 

كما لا يفوتنا التنبيه انه ليس مطلوبًا من المسلم أن يصبح فقيهًا موسوعيًا، يُتقن كل دقيق وجليل في شؤون الدين، فهذا طريقٌ وعرٌ، قليلٌ من يسلكه ويبلغ منتهاه. بل يكفيه أن يُلمَّ بأصول دينه، وأن يتعلم ما يستطيعه ويُدركه عقله.

 

ولا عيبَ في ذلك، فكلُّنا في هذه الحياة نسير على هذا النهج، فهل من أحدٍ منا يعرف كلَّ شيء عن طعامه وشرابه، أو عن كيفية صناعة ملابسه ومركباته؟  كلا، بل نعتمد في كثير من أمورنا على أهل الخبرة، ونثق بمعرفتهم ودرايتهم، ولا نرى في ذلك أيَّ حرج.

 

وكذلك شأنُ الدين، فمن العسير على الإنسان العادي أن يُحيط بكلِّ تفاصيله الدقيقة، فيُشرع له أن يقلّد العلماء الربانيين، أهل الصدق والأمانة، فيَأخذَ عنهم دينَه، ويسترشدَ بهم في طريق الهداية.

 

ولكن هناك من ينتقدون الأديان، ويَرَوْنَ في تقليد العوام لِعُلمائِهم نقصًا وفسادًا، مع أنهم لا يَتَوانَوْنَ عن التقليد في شؤون حياتهم الأخرى!  فأيُّ تناقضٍ هذا؟!

 

كما ان اتهامهم للإسلام بالحكم على كل من خالفه بالكفر واستحقاقه العذاب في جهنم كذب صريح، وإنما الحق الذي صرح به علماء الإسلام أن الكفار الذين لم يدخلوا الإسلام نوعان:

الأول من سمع بالإسلام وأعرض عنه عنادًا واستكبارًا، أو تقليدًا واستخفافًا، فهذا النوع يعذبه الله في النار يوم القيامة؛ لكون الحجة قد قامت عليه.

والثاني: من لم يسمع بالإسلام، أو سمع عنه بصورة مشوهة مخالفة لحقيقته، فهذا النوع حكمه حكم الجاهل القاصر الذي يرفع عنه العذاب لجهله، ويشمله الله برحمته، يدل عليه قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، الأسراء: 15.

فهذه النصوص تدل على أنه ليس كل كافر لا بد أن يعذب في الآخرة، وإنما يعذب من قامت عليه الحجة ولم يأخذ بها .

والناقدون للأديان لا يعرفون هذا التفصيل في دين الإسلام، وطفقوا يتباكون على المجتمعات بأن أهل الإسلام يحكمون عليهم بالعذاب والهلاك، وكل ذلك جهل وانحراف عن المنهج العلمي.

 


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م