17 ذو القعدة 1446 هـ   15 أيار 2025 مـ 9:22 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-05-11   39

الإلحاد وتصوّرات الدين المغلوطة


الشيخ معتصم السيد أحمد
من المؤسف أن العديد من المفاهيم المغلوطة حول الدين قد تسرّبت إلى أذهان بعض الأفراد، ومن ثم تعاملوا معها كحقائق لا تقبل النقاش. على الرغم من أن هذه المفاهيم المغلوطة ليست نتيجة دراسة معمقة أو تحليل دقيق للنصوص الدينية أو المفاهيم العقائدية، فإنها في الغالب نتاج تجارب حياتية سطحية أو تأثيرات بيئات اجتماعية غير متخصصة. ففي كثير من الحالات، يستند الأفراد في معارفهم الدينية على القصص الشعبية أو الشائعات أو الأفكار الموروثة التي لا تلامس جوهر الدين، أو على بعض التجارب الدينية المشوهة سياسياً أو اجتماعياً. مع مرور الوقت، تتراكم هذه الأفكار المغلوطة بشكل غير واعٍ داخل ذهن الفرد، حتى تصبح جزءاً من قناعاته الدينية، الأمر الذي يجعله أكثر ميلاً لتبني مواقف عدائية تجاه الدين والتدين.

من هذا البُعد، يمكننا القول إن غالبية الملحدين العرب لا ينطلقون في مواقفهم من الدين بناءً على دراسة نقدية عميقة أو تحليل فكري متأنٍ. فهم في العادة لم يحصلوا على فرصة لدراسة الدين بشكل صحيح أو متعمق، بل تلقوا تصورات مشوهة عن الدين من خلال منابر متطرفة أو غير ناضجة أو من خلال الممارسات الدينية الخاطئة التي عايشوها في مجتمعاتهم. نتيجة لذلك، يرون الدين على أنه شيء منغلق وغير قابل للتطور، ويصوّرونه كأفكار قديمة لا تمت بصلة لواقعهم المعاصر. وهكذا، يميلون تدريجياً للأفكار المناهضة للدين.

من المؤكد أن هذا ليس هو السبب الوحيد للإلحاد العربي، لكنه يعد من الأسباب المؤثرة بشكل كبير. فالإعداد النفسي الذي يحمله هؤلاء الأفراد، والذي يتسم برفض الدين والتشكيك في قيمه، يمهد الطريق لقبول أي أفكار تعزز هذه القناعات. وبذلك، يرون في الإلحاد حلاً جذرياً لكل ما يعانون منه من تساؤلات ومشاكل فكرية. في هذا السياق، تصبح الأفكار الإلحادية بالنسبة لهم وسيلة للخلاص من القيود التي يعتقدون أن الدين يفرضها على الفكر والإبداع. ينظرون إلى الإلحاد كفرصة لتحرير عقولهم من التقاليد التي يرونها معيقة للتقدم الفكري، مما يعزز شعورهم بالتحرر والقدرة على إعادة تشكيل مفاهيمهم دون قيود دينية.

ومع ذلك، يرى هؤلاء الأفراد الدين من خلال عدسة ضيقة، معتقدين أن هذه المفاهيم المشوهة هي جوهر الدين ذاته. لكن الحقيقة هي أن هذه التصورات لا تعكس جوهر الدين، بل هي نتاج تحريفات تعرضت لها النصوص والمفاهيم الدينية عبر العصور. هذه التحريفات جاءت نتيجة تأويلات مغلوطة أو تأثيرات ثقافية واجتماعية أضعفت جوهر الدين وأساءت إلى معانيه الحقيقية.

مغالطة "الرجل القش"
المغالطة الكبرى التي يرتكبها الكثير من هؤلاء الملحدين هي محاكمة الدين بناءً على قناعات لا تمثله، بل تمثل الفهم المشوه الذي يحملونه عنه. هذه المغالطة تُعرف بـ "مغالطة الرجل القش"، حيث يبني الفرد صورة مشوهة أو مبسطة للغاية عن الفكرة أو الموقف الذي يناقشه، ثم يهاجم هذه الصورة المغلوطة بدلاً من مناقشة الفكرة الحقيقية. على سبيل المثال، قد يقوم بعض الملحدين بتصور الدين على أنه مجرد مجموعة من الأوامر والنواهي التي تهدف إلى السيطرة على الناس وإغلاق عقولهم، في حين أن الدين في جوهره يدعو إلى التفكير الحر والتأمل في الكون والحياة. بناءً على هذا الفهم المشوه، يهاجمون الدين ويصفونه بالرجعية، بدلاً من التعرف على تعاليمه العميقة التي تشجع على البحث عن الحقيقة والتساؤل المنطقي.

التفاعل العميق مع الدين
عندما نتحدث عن الدين، يجب أن يكون فهمنا له مستنداً إلى مصادره الطبيعية والموثوقة، أي نصوصه المقدسة وروحه الحقيقية، وليس بناءً على تفسيرات مغلوطة أو آراء شخصية تتشكل وفقاً لثقافات أو تجارب محدودة. فالدين في جوهره لا يُفهم من خلال تصورات سطحية أو تأويلات غير دقيقة، بل يجب أن يتم فهمه وفق منهجيات علمية محايدة وأسلوب بحثي يتسم بالموضوعية والعمق. هذه المنهجيات تهدف إلى الكشف عن المعنى الحقيقي للنصوص الدينية، بما يعكس الغاية الأسمى التي يسعى إليها الدين في تنظيم حياة الإنسان.
الدين ليس مجرد معتقدات تقليدية تابعة لثقافة المجتمع، بل هو نظام قيم شامل يُحدد العلاقة بين الفرد وخالقه، ويُرسي الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة من إيمان وطاعة وتفكر. 
هذه الأسس تتعدى كونها مجرد ممارسات دينية لتصبح رؤية شاملة تلامس كافة جوانب الوجود الإنساني. كما أن الدين يوفر للفرد المبادئ التي تحكم تفاعلاته مع الكون من حوله، مما يساهم في توجيه سلوكياته وعلاقاته مع الآخرين والمجتمع. وبذلك، يصبح الدين إطاراً شاملاً لا يقتصر على العبادات فحسب، بل يمتد ليشمل جميع جوانب الحياة اليومية، مما يساعد الإنسان على السعي نحو الكمال الروحي والتطور الأخلاقي.

الإيمان بالله كجوهر الدين
إن التصور السليم للدين لا يتحقق إلا من خلال التفاعل العميق مع مفاهيمه الأساسية وفهم الغاية الكبرى التي يسعى لتحقيقها. فالدين ليس مجرد شعائر أو ممارسات، بل هو رؤية شاملة للحياة تلامس كافة جوانب الوجود الإنساني. ولتحقيق هذا الفهم العميق، يتطلب الأمر التفاعل الواعي مع المبادئ الأساسية للدين، مثل العقيدة، العبادة، والأخلاق، بما يتيح للفرد أن يعيش حياة مليئة بالمعنى والغاية وفقاً للتعاليم التي يقدمها الدين.
في الإسلام، على سبيل المثال، يُعتبر الإيمان بالله جوهر الدين ومفتاح فهمه. الإيمان بالله ليس مجرد اعتراف عقلي بوجوده، بل هو انغماس كامل في الحقيقة المطلقة التي يتمثل فيها الله. هذا الإيمان يضع الإنسان في علاقة مباشرة مع الخالق، حيث يصبح الله مصدر كل شيء في الكون. في هذه العلاقة، يتجسد التسليم الكامل بما جاء من الحق الإلهي، الذي يعبر عن الإقرار بوجود الله ووحدانيته وحكمته المطلقة.

لكن هذا التسليم لا يقتصر على الاعتراف النظري فقط، بل هو عمل فكري وروحي يتطلب من الإنسان أن يعبر عن إيمانه من خلال أفعاله وتصرفاته. إنه اعتراف داخلي ليس فقط بوجود الله، بل أيضاً بإرادته في خلق الكون وتنظيمه وفق قوانين العدل والرحمة. من خلال هذا التسليم الكامل، يتمكن الإنسان من بناء علاقته مع الكون على أساس من التناغم مع قيم العدل والرحمة التي يعززها الدين، مما يعكس تكاملاً بين الفهم العقلي والروحاني في حياته اليومية.

التوازن بين الغيب والشهود
إن التوازن الفكري والمعرفي للإنسان لا يتحقق إلا من خلال نظرة متوازنة تجمع بين الغيب والشهود. فالحياة لا يمكن أن تكون مفهومة بشكل كامل إذا تم اختصارها في جانب واحد فقط. فالشهود، أي ما يدركه الإنسان من خلال حواسه وتجربته الحياتية اليومية، لا يمكن أن يُفهم بمفرده دون الاستناد إلى الغيب، الذي يشتمل على المعتقدات التي تتجاوز ما يمكن إدراكه بالحواس، مثل وجود الله، والملائكة، واليوم الآخر. وفي المقابل، لا يمكن فهم الغيب بشكل صحيح إلا من خلال تفاعله مع الشهود، أي من خلال تطبيق المبادئ الغيبية على الواقع الحياتي والتجارب الإنسانية اليومية.

هذه العلاقة المتبادلة بين الغيب والشهود تُكمل بعضها البعض، وتساهم في تكوين فهم شامل ومتوازن للوجود. فالإيمان بالغيب يعزز معاني الحياة ويمنحها بعداً روحياً وأخلاقياً، في حين أن الشهود يقدّم السياق الواقعي والتجريبي الذي يمكن من خلاله اختبار هذه المفاهيم وتطبيقها. وعندما يتناغم الغيب مع الشهود، يصبح الإنسان قادراً على بناء رؤية متكاملة للحياة، ويحقق توازنه الفكري والروحي.

هذه الأبعاد، الغيبية والشهودية، تكمل بعضها البعض وتُسهم في تكامل الإنسان في علاقته مع الله ومع الكون. فالإيمان بالله لا يقتصر على جانب واحد فقط، بل يشمل الاعتراف بما لا يُرى، كما يشمل أيضاً إدراك الإنسان لواجباته الأخلاقية والروحية في العالم الذي يعيشه. من خلال هذا التوازن بين الإيمان بالغيب والإيمان بالشهود، يحقق الإنسان تناغماً بين روحه وعقله، ويستطيع أن يعيش حياة مليئة بالمعنى والغاية.

الإلحاد وعدم التوازن الفكري
عندما ينكر الإنسان وجود الخالق، فإنه في الحقيقة ينكر الأساس الذي يقوم عليه وجوده ذاته. فالإيمان بالخالق هو الركيزة الأولى التي تُبنى عليها كل التصورات الأخرى عن الكون والحياة. إن الفكر الإلحادي، الذي يقوم على رفض وجود الله، يقوض إمكانيات بناء رؤية متكاملة ومتسقة للوجود. كيف يمكن للإنسان أن يعتقد بوجود مخلوق دون أن يعترف بوجود من خلقه؟ هذا السؤال يعكس التناقض الداخلي الذي يظهر في الفكر الإلحادي، حيث يستحيل على الإنسان أن يقبل بوجود شيء دون أن يعترف بمصدره الأول.
هذا التناقض يجعل من الصعب على الملحد أن يطور رؤية فلسفية منسجمة تحل تساؤلاته حول الوجود والحياة. فالإلحاد في جوهره لا يقدم بديلاً منطقياً لفهم الكون، بل يترك الإنسان في حالة من الاضطراب الفكري والعاطفي، لأن رفض وجود الخالق يفضي إلى رفض الأسس التي تقوم عليها كل المعايير القيمية والأخلاقية. وبالتالي، يبقى الملحد عالقاً في دوامة من الأسئلة التي لا يجد لها إجابات شافية، مما يعوقه عن إيجاد رؤية متكاملة تحقق تطلعاته الروحية والمادية.

من هذا المنطلق، يتضح أن الإيمان لا يقتصر على الاعتراف العقلي بوجود الله فقط، بل يتطلب أيضاً التزاماً عملياً بتطبيق هذه المعرفة على واقع الحياة اليومية. فالإيمان الصحيح لا يعني مجرد إقرار بوجود الله في العقل، بل هو انغماس في قيم الدين ومبادئه التي تشكل مرشداً لسلوك الإنسان في مختلف جوانب حياته. عندما يعي الإنسان الإيمان كقيمة حية، يصبح هذا الإيمان قوة دافعة له لتحقيق المثل العليا التي تتماشى مع فطرته الإنسانية السليمة، ويُوجهه نحو تحقيق الغايات العليا التي تسعى إلى بناء شخصية متوازنة ومتكاملة.

فعندما يقترن الإيمان بالعمل الصالح، يصبح فعل الإنسان انعكاساً حقيقياً لإيمانه، مما يتيح له الوصول إلى التوازن الداخلي والخارجي. هذا التوازن يعزز السلام النفسي، إذ يشعر الفرد بالطمأنينة الداخلية نتيجة لانسجامه مع قيمه الدينية والأخلاقية. كما أن العمل الصالح يساهم في تحقيق السلام الاجتماعي، حيث يسهم الفرد المؤمن في تعزيز العلاقات الإيجابية والمبنية على العدل والرحمة مع الآخرين، مما يعزز من استقرار المجتمع ويحقق له تطوراً شاملاً.

وفي المقابل، عندما يرفض الإنسان الاعتراف بالخالق، فإنه يعجز عن تحقيق هذا التوازن. إذ يصبح لا معنى لوجوده، وتصبح حياته فارغة من المعنى. وهذا يعيدنا إلى فكرة أن الإيمان بالله هو الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء، وأنه لا يمكن للإنسان أن يحقق نجاحاً حقيقياً في حياته دون الاعتراف بهذا الأساس.

في الختام، يمكن القول إن العديد من الملحدين العرب قد انطلقوا في رفضهم للدين بناءً على تصورات مشوهة لا تعكس الحقيقة الدينية. فقد تلقوا فهماً مغلوطاً عن الدين، إما من خلال الموروثات الثقافية أو من خلال تجارب سطحية لم تُعمَّق معرفتهم بها. هذه التصورات المشوهة جعلتهم يرفضون الدين ككل دون النظر إلى جوهره الحقيقي وفهمه الصحيح. كما أن هذا الرفض لم يُمهّد لهم الطريق لإيجاد بديل فكري حقيقي يمكن أن يحقق لهم ما فقدوه في الدين. في الواقع، لم يكتشفوا أن الدين يقدم أساساً صلباً للمعنى في الحياة والتوازن الداخلي، وهو ما كان بإمكانه أن يملأ الفراغ الذي شعروا به. وبالتالي، ظلوا عالقين في حالة من الضياع الفكري والروحي، دون أن يتمكنوا من بناء رؤية متكاملة لحياتهم.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م