
2025-06-07 139

الليبرالية: حرية أم هيمنة اقتصادية؟
الشيخ معتصم السيد أحمد
تُقدَّم الليبرالية في كثير من
الكتابات الفلسفية والسياسية بوصفها مشروعاً تحررياً، هدفه انتزاع
الإنسان من هيمنة السلطة السياسية والدينية التقليدية، وتحقيق حريته
الفردية وحقوقه الأساسية. غير أن التأمل العميق في السياق المفهومي
والفلسفي لهذا المذهب، يكشف عن دلالة مختلفة قد تبتعد كثيراً عن
الصورة المُسَوَّقة لها، إذ إن جوهر الليبرالية الحديثة، وخاصة منذ
القرن التاسع عشر، لم يعد يتصل بفكرة الحرية الإنسانية بوصفها قيمة
وجودية وأخلاقية، بل صار يتمحور حول حرية الفرد بوصفه كياناً
اقتصادياً، يملك أدوات الإنتاج ويخضع لمنطق السوق. وهذا ما يشير
إليه الكاتب المغربي الطيب بوعزة في كتابه (نقد الليبرالية) حين
يذهب إلى أن الليبرالية الحديثة لم تعد تعني حرية الإنسان ككائن
عاقل، بل حرية "المالك الاقتصادي"، أي الكائن الذي يملك ويستثمر
ويُنتج، وتتحول حريته تبعاً لذلك إلى قدرة على التأثير في السوق لا
إلى ممارسة وجودية نابعة من إنسانيته.
إن ما يشهده العالم الليبرالي من
طغيان الرؤية الاقتصادية على سائر أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية
والسياسية، يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد أصبحت مفاهيم مثل الحرية
والديمقراطية وحقوق الإنسان خاضعة إلى ما يُعرف بالنفعية الفردية،
بل خاضعة أكثر إلى معايير السوق والتداول الرأسمالي. فحرية التعبير
مثلاً تُكفل طالما لا تضر بالمصالح الاقتصادية الكبرى، وحقوق
الإنسان تُفعَّل وتُبرز متى خدم ذلك أجندة معينة أو اتسق مع سياسات
الاحتواء والتحكم في الرأي العام.
في هذا السياق، فإن الديمقراطية
الليبرالية – والتي يُفترض أن تكون تعبيراً عن إرادة الأغلبية – قد
تحولت إلى منتج يُصنَع كما تُصنَع السلع الاستهلاكية. فبفضل القوة
الهائلة للمؤسسات الإعلامية والتقنية، يمكن توجيه الرأي العام
وتشكيله، ويمكن التحكم بمسار الانتخابات واتجاهات التصويت من خلال
الأدوات الإعلامية الخفية التي تُعيد صياغة وعي الناخب على نحو يخدم
مصالح النخب الاقتصادية. وهكذا تصبح الديمقراطية مجرد واجهة تُستخدم
لتبرير قرارات أقلية نافذة تمتلك رأس المال وتتحكم في المنصات
الثقافية الكبرى، في حين تُهمَّش الإرادة الشعبية الحقيقية.
ومن هنا يمكننا القول إن
الليبرالية الراهنة، بدلاً من أن تكون مشروعاً تحررياً للإنسان،
صارت مشروعاً لتحرير السوق من أي قيد أخلاقي أو ديني أو اجتماعي.
إنها أيديولوجيا تسعى إلى تحويل الإنسان إلى مجرد مستهلك ومنتِج،
وتُعلي من شأن التنافس الاقتصادي بوصفه القيمة العليا، على حساب
التضامن والعدالة والرحمة والكرامة. وهذه التحولات أنتجت اختلالاً
كبيراً في البنية الحضارية للمجتمعات المعاصرة، يتجلى في اتساع
الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتفكك العلاقات الاجتماعية، وظهور
أزمات نفسية وروحية خانقة، يعاني منها حتى سكان الدول
المتقدمة.
بلغة أخرى، فإن ما نشهده اليوم من
تفشي الانتحار، والاكتئاب، والشعور باللاجدوى، خاصة في المجتمعات
الليبرالية، ليس سوى عرض من أعراض الأزمة العميقة التي تولدها فلسفة
تفرغ الإنسان من كل بعد أخلاقي وروحي، وتختزل وجوده في قدرته على
الإنتاج والاستهلاك. هذه الفلسفة لا تُنتج إنساناً حراً، بل إنساناً
هشاً، مرعوباً من المستقبل، مهووساً بالمكانة الاجتماعية، ومربوطاً
بآليات السوق بطريقة تجعله عبداً لها، لا سيداً عليها.
ولعل الإشكال الأكثر خطورة في هذا
المسار الليبرالي هو تفكك المرجعية الأخلاقية التي كانت تضبط حياة
الإنسان. فباسم الحرية المطلقة، تم تهميش كل مرجعية دينية أو قيمية
ثابتة، مما أفسح المجال أمام نزعات فردية قد تتناقض مع مصلحة
الجماعة. وهذا ما نراه بوضوح في بعض السلوكيات الحديثة التي تُسوَّق
بوصفها "حقوقاً"، في حين أنها قد تُسهم في تقويض البناء الأسري، أو
تشويه الفطرة، أو تهديد التوازن المجتمعي.
ومع ذلك، فإن الليبرالية – بكل هذه
التناقضات – ما زالت تُمثّل نموذجاً جاذباً لبعض شعوب العالم
الثالث، خاصة تلك التي تعاني من الاستبداد السياسي أو التخلف
الاقتصادي. غير أن هذه الجاذبية تقوم غالباً على وهم الصورة
المثالية التي تُرسم لليبرالية، وليس على وعي نقدي بحقائقها وبُناها
العميقة. ولذلك فإن ما تحتاجه هذه المجتمعات ليس مجرد استيراد
الأنظمة الليبرالية، بل بناء نموذج حضاري يقوم على التوازن بين
الحرية والمسؤولية، بين الفرد والمجتمع، بين الحقوق والواجبات، بين
المادة والروح.
وهنا يأتي الإسلام، لا بوصفه مجرد
دين، بل بوصفه مشروعاً حضارياً متكاملاً، يحمل رؤية متوازنة للإنسان
والحياة والمجتمع. فالإسلام لا ينكر أهمية الحرية، لكنه لا يجعل
منها أداة لفك الروابط الاجتماعية أو لتبرير الأنانية الفردية، بل
يجعلها وسيلة لتحقيق الكرامة الإنسانية ضمن إطار قيمي يُراعي مصلحة
الفرد والمجتمع معاً. إن الإسلام يؤسس لحرية نابعة من مسؤولية
الإنسان أمام خالقه، لا من طغيانه على الآخرين. كما أنه لا يربط
قيمة الإنسان بإنتاجه الاقتصادي، بل يربطها بتقواه وأخلاقه ومساهمته
في بناء مجتمع عادل ومتراحم.
وقد بيّن القرآن الكريم بوضوح أن
كرامة الإنسان لا تنبع من قوته أو ماله أو انتمائه، بل من كونه
مخلوقاً مكرّماً من الله تعالى، كما في قوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]. هذه الكرامة تُشكّل الأساس لكل نظام
سياسي أو اجتماعي يريد أن يحافظ على إنسانية الإنسان، وهي ما تفتقده
الليبرالية المعاصرة حين تجعل الإنسان مجرد "كائن اقتصادي".
من هنا فإن إعادة بعث القيم
الإسلامية، وتجسيدها في الواقع السياسي والاجتماعي، لا ينبغي أن
تكون مجرد شعارات، بل يجب أن تُترجم إلى مشاريع ثقافية واقتصادية
تحمي الإنسان من التشييء والاغتراب، وتعيد له موقعه كمخلوق له رسالة
في هذا الكون. هذه المهمة ليست سهلة، لكنها ضرورة، لأن البديل عنها
هو استمرار التدهور الحضاري والفراغ الروحي الذي يعيشه كثير من
المجتمعات المعاصرة.
وختاماً، فإن نقد الليبرالية لا
يعني بالضرورة الدعوة إلى النكوص أو التراجع عن المكاسب الإنسانية
الحديثة، وإنما يعني إعادة بناء النموذج الحضاري على أساس متوازن،
يُراعي البعد الأخلاقي والديني إلى جانب البعد المادي والتقني. إن
الإسلام لا يرفض الحرية ولا الديمقراطية، لكنه يرفض أن تُفرّغ من
معناها القيمي لتتحول إلى أدوات لسيطرة الأقوياء، ويطمح إلى أن تكون
هذه المفاهيم جزءاً من منظومة متكاملة تُعلي من شأن الإنسان بوصفه
غاية، لا وسيلة.
الأكثر قراءة
32359
19392
14900
11614