
2025-06-19 88

دوكنز ليس نبيًا... و"وهم الإله" ليس وحيًا
الشيخ مقداد الربيعي
يطالعنا المشهد الثقافي الراهن
بظاهرة لافتة تتمثل في بروز تيار فكري يحمل اسم "الإلحاد الجديد"،
وهو تيار يتسم بالجسارة في المقاربة والاعتداد الملفت بالخلاصات
التي يتوصل إليها. هذا الاعتداد، الذي ينتشر عبر وسائل التعبير
والأداء المتنوعة، يستدعي منا تأملاً نقدياً عميقاً لاستجلاء
مضامينه وانعكاساته على المجال التداولي الفكري المعاصر.
تفيض عناوين المؤلفات التي ينتجها
أصحاب "الإلحاد الجديد" بثقة مفرطة تلفت النظر، فنجد أمامنا كتاب
ريتشارد دوكنز الإشكالي "وهم الإله"، ومؤلف كريستوفر هيتشنز
الاستفزازي "الله ليس عظيماً"، إضافة إلى إنتاج سام هاريس في "نهاية
الإيمان" و"استحالة الخالق"، وهذه مجرد نماذج من قائمة أطول. هذا
التضخم في الثقة يمثل أكثر سمات الإلحاد الجديد وضوحاً، وقد لفت
إليها القرآن الكريم بمصطلح الاطمئنان، كما في قوله تعالى: (إِنَّ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا
غَافِلُونَ)، يونس: 7. وبذلك يسلط الكتاب العزيز الضوء على وجود
حالة من الثقة والاطمئنان تتمكن من نفس الملحد تزيد وتنقص كما يزيد
وينقص الإيمان في قلب المؤمن.
تبرز هذه الثقة المتضخمة عبر زوايا
متعددة تفصح عن جوهر هذا المنحى الفكري ومراميه. إذ يُنظر للإلحاد،
من منظور معتنقيه، كونه الاختيار الوحيد المنطقي الذي لا يمكن لأي
عقل سليم تجاهله، بل هو المآل الطبيعي والخلاصة الضرورية للتأمل
المجرد النزيه. تظهر سمة الاعتداد لدى الملحد الجديد عبر سلوكيات
محددة؛ في تقديم نفسه بصورة الواثق المطمئن أمام الرأي العام في
السجالات والمحاورات واللقاءات والفعاليات العامة والخاصة.
كما تتضح هذه الثقة عبر جاهزيته
الكاملة لدخول أي صراع مع الخطاب الديني؛ إذ يتصور نفسه منقذ الجنس
البشري من الأوهام التي ظلت تجثم على قلوبهم عبر آلاف السنين. ونلمح
هذا الاعتداد أيضاً في تصويره لذاته كزعيم إنساني مضحٍ يقلق لمآل
البشرية، ويتحسر على تاريخها ويشفق على راهنها، ويتفاءل
بغدها.
وفقاً لوصف مؤرخة الأديان كارن
أرمسترونغ: «أما بالنسبة لدوكنز؛ كسائر الملاحدة الجدد، سام هاريس،
الفيلسوف الأمريكي الناشئ وطالب علم الأعصاب، وكريستوفر هيتشنز،
ناقد وصحفي، الدين هو سبب كل المشاكل في عالمنا؛ إنه مصدر الشر
المطلق ويسمم كل شيء. هؤلاء يرون أنفسهم في طليعة الحركة العلمية
العقلية التي ستنتهي باستئصال فكرة الإله من الوعي الإنساني».
Armstrong, K. (2009) The Case for God, p. 289.
التمايز الحضاري: قراءة مقارنة مع
الإرث الإلحادي
قد يعترض معترض على دقة تشخيص هذه
الخاصية، محتجاً بأن الإلحاد في حقبة التنوير لم يفتقر للثقة، بل
ربما كان أكثر ثقة وأشد قوة. وهذا الاعتراض صحيح من ناحية نوع
الثقة، لكنه غير دقيق بالنظر إلى شكل الثقة المصاحب لموجة الإلحاد
الجديد.
اتسمت ثقة ملاحدة حقبة التنوير
بكونها ثقة طائشة متهورة إلى درجة أن عدداً من كبار الملاحدة في تلك
المرحلة أعلنوا حرباً ضروساً على كل ما هو مقدس، فدمروا المعابد،
وتعقبوا الكهنة وأتلفوا النصوص المقدسة، الأمر الذي نبه الضمير
الغربي إلى خطر نمط جديد من التطرف لا يقل فتكاً عن تطرف الكنيسة في
عهد محاكم التفتيش، وسرعان ما أدرك الناس أن تلك الثقة لم تكن ثقة
بالمفهوم الإنساني المريح للثقة بل انتفاضة وحشية غير
محسوبة.
في المقابل، يتسم المسار العام
للثقة التي يعرضها الإلحاد الجديد بأنها - إجمالاً - ثقة "ناعمة" لا
"خشنة"، "تفاعلية" وليست "إقصائية"، "سلمية" وليست "عدوانية"،
"متوازنة" وليست "متهورة"، و"دعوية" لا "تهديدية"، وهو ما أكسب
الإلحاد الجديد قبولاً في الوعي الجمعي الذي يميل بفطرته إلى تفضيل
النظرة العلمانية الإنسانية للكون والحياة.
اختصاراً: يمكننا اعتبار خاصية
الثقة هذه المصدر الرئيسي لخصائص أخرى واضحة للعيان. فالمتيقن
يقيناً متعالياً من صحة الطرح الإلحادي وخطأ النظرة الإيمانية لن
يتردد في التقليل من شأن مناوئيه، والاستخفاف بمنطلقاتهم الحياتية،
بل وتنصيب ذاته حارساً على نوعية الاستفهامات التي يجب طرحها،
واستصغار تراث شامل وهدم بناء كامل بعبارات موجزة، أو صفحات
قليلة.
وضع الناقد البريطاني المعروف تيري
إيغلتون مقالة حادة ومشهورة في نقد الأسلوب الذي يعرض به دوكنز نفسه
في "وهم الإله" كمختص في علم اللاهوت، وافتتح مقالته بقوله: «تخيل
شخصاً يسهب في الحديث عن علم البيولوجيا، ومبلغه من العلم فيه لا
يتجاوز ما ورد في كتاب الطيور البريطانية»، Eagleton, T, (2006)
Lunging, Flailing, and Mispunching, London Review of Books, Vol.
28, No. 20, 19 October.
ثم حاول أن تكوّن فكرة عما يمكن أن
تشعر به عندما تقرأ لريتشارد دوكنز في علم اللاهوت!
البحث في الجذور النفسية
والتاريخية
من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن أي
مسعى لاستيعاب خاصية "العنجهية المدللة" في بلاغة الإلحاد الجديد
ستبقى ناقصة ما لم نسع لاكتشاف المحركات التاريخية والنفسية التي
أفرزت هذه "الجاذبية الإلحادية المعتدة بذاتها".
بفهمنا لمحرك الثقة هذا نفيد
أنفسنا كما نفيد الملحد؛ فالملحد الجديد يعتقد أنه يملك الحقيقة،
ويرغب منا أن نتعامل معه انطلاقاً من هذا الافتراض، لماذا؟ ليجعلنا
نصغي إليه، ونتفحص ما يطرحه عسى أن نكتشف النجاة في الإلحاد بدلاً
من الدين، والسعادة في الكفر بدلاً من الإيمان، هذا أقل توقعات
الملحد الجديد منك: أن تنظر لكل شيء بالمنظور الذي فرضته المرحلة
الحضارية المتأخرة من تجربة البشر.
أما أقصى توقعاته منك فلا نهاية
لها، انطلاقاً من مغامرة كريستوفر هتشنز غير المحسوبة بأن «الدين
يسمم كل شيء»، مروراً بدعوة سام هاريس الناس إلى سلوك الطريق من أجل
«إيصاد الباب أمام نمط معين من اللاعقلانية»، ووصولاً إلى إصرار
دوكنز الشديد على ضرورة «رفع وعي الجماهير بالمآلات الإلحادية
المحمودة - هكذا يعتقد - للعلم الطبيعي».
يقول سام هاريس: «لو أن عيسى أتى
بشيء من مثل: مكتبة الفاتيكان تحوي بالضبط ٣٧٢٢٦ ألف كتاب»، ثم تبين
لنا أن هذا صحيح لساغ لنا أن نشعر على الأقل أننا في مستوى الحوار
مع شخص لديه ما يمكن أن يقوله عن هيئة وجود العالم». Harris, S.
(2006) The End of Faith, The Free Press, p. 77
هذا النمط من التفكير يفضح سطحية
في مقاربة القضايا الروحية والميتافيزيقية، ويقلص الحقيقة الدينية
إلى معادلات مادية بسيطة.
العنوان الفرعي لمؤلف كريستوفر
هتشنز "الله ليس كبيراً" - تعالى عما يقولون - يطرح تساؤلات أساسية
حول مدى دقة التعميمات المتطرفة للإلحاد الجديد. ألا يثير دهشتك كيف
تنتشر تصريحات كهذه بسهولة بين أعداد كبيرة من الناس؟ هل الدين حقاً
يسمم كل شيء؟ أبسط مراجعة للتاريخ تحول هذا الزعم إلى هشيم تذروه
الرياح.
ماذا نقول عن مساهمة الحركة
البروتستانتية في ولادة النظام الرأسمالي - رغم انحراف المسار
وإشكالية المضمون - الذي تنعم بثماره وتفتخر به أجيال الغرب
"اللادينية" اليوم؟ وماذا عن إجماع نخبة من أبرز المؤرخين على دور
الإسلام في انتشال الغرب من غياهب الجهل؟ للباحث بيتر أوبراين مقالة
محكمة بعنوان "دور الحضارة الإسلامية في انحسار فترة العصور الوسطى"
نشرت عام 1999.
خلاصة نقدية
إن استيعاب ظاهرة الثقة المتضخمة
في الإلحاد الجديد يستلزم منا تجاوز المعالجة السطحية لهذا المنحى
الفكري. فهذه الثقة، برغم ما تظهر عليه من قوة وإغراء، تنطوي على
تناقضات أساسية وتبسيطات مضرة بالحقيقة التاريخية والفلسفية.
هذه الدعوة المرنة إلى التفكير
النزيه أو القرار العقلاني لا تزودنا بمعايير تشمل كافة الممارسات
المعرفية المشروعة. التفكير النزيه هنا يعني التفكير وفقاً لشروط
يحددها الإلحاد، فهو يفرض حصاراً معرفياً على آفاق العلم المتاحة
فيخنقها خنقاً لكي ينتهي قرار الإنسان حتماً إلى خيار واحد فقط:
الإلحاد. في علم النفس قاعدة تقول: من يصنع الإطار يحكم
النتيجة!
إن التداول الحضاري الجاد يستدعي
منا جميعاً - مؤمنين وغير مؤمنين - التخلي عن الثقة المتضخمة
والتعالي الفكري، والانفتاح على التعقيد الحقيقي للوجود الإنساني
والكوني، بما يحمله من أسرار لا تزال تتحدى عقولنا وتستدعي تواضعنا
أمام عظمة الخلق والوجود.
الأكثر قراءة
32417
19406
14914