3 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 1:58 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-06-23   73

عندما يلتقي العلم بالدين: لماذا نخاف من الاكتشافات الجديدة؟


بقلم: الشيخ مقداد الربيعي

تخيل أنك تعيش في القرن السادس عشر، وفجأة يأتي عالم ويقول لك: "الأرض ليست مركز الكون، بل الشمس هي المركز!" كيف ستكون ردة فعلك؟ هذا بالضبط ما حدث عندما جاء العالم كوبرنيكوس بنظريته الجديدة، ثم أكدها العالم الإيطالي الشهير غاليليو.
وبعد قرون، تكرر المشهد نفسه عندما جاء العالم الإنجليزي تشارلز داروين بنظرية التطور، مخالفاً الفهم السائد حول خلق الكائنات الحية.
في كلا الحالتين، حدثت ضجة كبيرة وخوف شديد من هذه الاكتشافات العلمية الجديدة. لكن لماذا؟

السؤال المهم: ما سبب هذا الخوف؟
هل السبب حقاً أن هذه النظريات العلمية تتعارض مع الدين؟ أم أن هناك شيئاً آخر؟

الحقيقة أن السبب الحقيقي ليس التعارض مع الدين نفسه، بل استخدام بعض الملحدين لهذه الاكتشافات كسلاح ضد الدين، محاولين إثبات بطلانه من خلال القول: "انظروا! الدين كان يؤمن بنظريات خاطئة!"

الحقيقة المُخفية
ولكن هنا نقطة مهمة جداً: هذه النظريات القديمة لم يكن مصدرها الدين أصلاً! فلا نجد في الكتاب المقدس ولا في القرآن الكريم أي التزام صريح بنظرية بطليموس حول مركزية الأرض، ولا نجد فيهما التزاماً بفكرة خلق كل نوع من الكائنات بشكل منفصل ومستقل.
إذن من أين جاءت هذه النظريات؟

جاءت من علماء الطبيعة القدماء - وهم ليسوا بالضرورة متدينين - بناءً على ملاحظاتهم وفهمهم للطبيعة في ذلك الوقت. والكنيسة تبنت هذه النظريات لأنها كانت تمثل أفضل ما توصل إليه العلم في ذلك الزمان. وأنا هنا لا أريد الدفاع عما فعلته الكنيسة من خلال محاكم التفتيش ضد من يخالف تفسيراتها، فهذا خطأ لا يُبرر.

إذن، لماذا يخاف المتدينون من الاكتشافات العلمية الجديدة؟

السبب هو استخدام بعض الملاحدة لهذه الاكتشافات كسلاح ضد المؤسسات الدينية، بل ضد الدين نفسه! هذا يدفع المتدينين إلى رفض الاكتشافات العلمية، معتبرين إياها خطراً وجودياً يهدد إيمانهم.

لكن هناك مشكلة أعمق وأهم من ذلك... الدين يقوم على فكرة أن الله تعالى هو الذي يرعى الكون ويديره، وأنه السبب والفاعل لكل الظواهر الطبيعية. بينما تقول النظريات العلمية أن لكل ظاهرة أسباباً طبيعية.
وهذا يخلق تناقضاً ظاهرياً: هل الله هو السبب، أم الأسباب الطبيعية هي السبب؟

هنا يأتي الفهم الإسلامي المتميز ليحل هذه المعضلة. فإذا راجعنا النصوص القرآنية، سنجد شيئاً مذهلاً: الله ينسب الفعل الواحد إلى نفسه تارة، وإلى الأسباب الطبيعية تارة أخرى. يقول الله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ﴾ (ينسب الموت لنفسه). ويقول: ﴿تَتَوَفَّاهُ مَلَائِكَتُنَا﴾ (ينسبه للملائكة). ويقول: ﴿يَتَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ (ينسبه لملك الموت).

هذا التعدد في النسبة يفتح الباب لفهم العلاقة الحقيقية بين تأثير الله وتأثير الأسباب الطبيعية. وفي علم الكلام الإسلامي، تُعرف هذه المسألة باسم "مسألة الاستطاعة". والمراد منها: أن كل موجود في هذا الكون - عدا الله - يستمد علمه وقدرته من الله تعالى. فالقوة والتأثير الموجودان في السبب الطبيعي (مثل النار التي تحرق، أو الدواء الذي يشفي) هما في الأصل مُستمدان من علم الله وقدرته.
الله سبحانه وتعالى هو الذي يُمكِّن هذا السبب من فعله وتأثيره.

هذا التوفيق الرائع بين تأثير السبب الإلهي والسبب المادي شرحه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بطريقة عملية جميلة: جاءه رجل من خاصته يُدعى عباية بن ربعي وسأله عن الاستطاعة التي نقوم ونقعد ونتحرك بها. فقال له الإمام: «إنك سألت عن الاستطاعة فهل تملكها من دون الله أو مع الله؟»
سكت عباية، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن قلت: تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت: تملكها دون الله قتلتك»
فقال عباية: «فما أقول؟»
قال (عليه السلام): «تقول: إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملكك إياها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، فهو المالك لما ملكك، والقادر على ما عليه أقدرك» [بحار الأنوار، ج75، ص51]

ما يقوله الإمام ببساطة: أنت لا تملك القدرة بمعزل عن الله (هذا إلحاد)، ولا تملكها كشريك مع الله (هذا شرك)، بل تملكها بالله وعن طريق الله. مثل المصباح الكهربائي: هو ينير، لكن إنارته تأتي من الكهرباء التي تصل إليه. فالمصباح فاعل حقيقي، لكن فاعليته مستمدة من مصدر آخر.

الخلاصة: لا تعارض بين العلم والدين
إذن، لا يوجد تعارض حقيقي بين الاكتشافات العلمية والإيمان بالله. العلم يكتشف الأسباب الطبيعية والقوانين التي تحكم الكون
الدين يخبرنا عن مصدر هذه القوانين والأسباب وهو الله تعالى. فالاكتشافات العلمية لا تلغي دور الله، بل تكشف لنا عظمة الأسباب والقوانين التي وضعها في خلقه.

الرسالة الأخيرة: لا تخافوا من العلم، فهو يكشف لنا المزيد من عظمة الخالق وحكمته في تنظيم هذا الكون المذهل.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م