3 محرم 1447 هـ   28 حزيران 2025 مـ 1:38 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-06-25   24

المعرفة الإلهية بين الفطرة والحجب النفسية: لماذا لا يهتدي الجميع؟


الشيخ معتصم السيد احمد
يثير بعض المتسائلين إشكالاً في غاية الأهمية: إذا كانت معرفة الله مغروسة في فطرة الإنسان، فلماذا لا يهتدي الجميع؟ ولماذا نرى في واقع البشرية أقواماً يعبدون الأوثان، أو يُؤلهون الحيوان، أو يعيشون في الإلحاد والضياع إلى يومنا هذا؟ أليس من المفترض أن تقود الفطرة كل إنسان إلى الإيمان بالله تعالى؟

للإجابة على هذا التساؤل، لا بد أن نفهم معنى الفطرة ودورها في المعرفة الإلهية. فالفطرة ليست مجرد معلومة كامنة أو دافع خام، بل هي أساس راسخ في كيان الإنسان، مغروس فيه منذ خلقه. وقد بين الإمام الباقر عليه السلام حين سُئل عن قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ فقال: «فطرهم على معرفة أنه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سُئلوا من ربهم ولا من رازقهم». وهذا يدل على أن المعرفة بالله ليست معرفة يكتسبها الإنسان من الخارج أو تستدعي استدلالاً عقلياً مجرداً، بل هي معرفة حاضرة في وجدانه، وإن كانت غير شعورية في بعض الأحيان.

غير أن هذه المعرفة الفطرية قد تتعرض للحجب والضياع بسبب الغفلة والهوى، ولذلك كانت الحاجة ماسّة إلى من يوقظ الفطرة ويزيل ما ران عليها من ظلمات الجهل والتقليد والانحراف. ولهذا أُرسل الأنبياء والرسل ليذكّروا الناس بما نسوه أو تجاهلوه، كما وصف أمير المؤمنين عليه السلام مهمة الأنبياء بقوله: «فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة».

إذن، الفطرة تحتاج إلى من يذكّرها، ولذلك نجد القرآن الكريم لا يقدّم الله كموضوع نظري يبحث العقل في إثباته، بل يذكّر الناس بربهم الظاهر في وجودهم، ويخاطبهم بما يعرفونه عميقاً في داخلهم، من خلال آيات كثيرة تقوم على التذكرة: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾، و﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾، و﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾، بل قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ﴾، مما يكشف أن القضية هي في التذكّر لا في الاكتشاف الجديد.

وهذا هو السبب في أمر القرآن بالتفكر في آيات الكون والنفس، لأنها تُنبه الفطرة لا أنها تُنشئ معرفة جديدة: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، فهي ليست أدلة خارجية تثبت وجود الله لمن لا يعرفه، وإنما هي مفاتيح توقظ الشعور الفطري المدفون تحت ركام الغفلة والانشغال بالدنيا.

والروايات عن أهل البيت عليهم السلام صريحة في هذا المعنى. فعن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، قال: فطروا على التوحيد». وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «ليس لله على الخلق أن يعرفوه قبل أن يعرّفهم، وللخلق على الله أن يعرّفهم، ولله على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا».

ومن أروع المشاهد التي تبيّن بوضوح حضور هذه الفطرة وقت الشدائد، ما رُوي عن رجل قال للصادق عليه السلام: «يا بن رسول الله دلني على الله، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيروني، فقال له الإمام: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كُسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك؟ قال: نعم، قال الإمام: فذلك هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث».

تأمل في هذا المشهد، كيف أن الإنسان في لحظة العجز الكلي، حين تُسحب منه كل وسائل النجاة المادية، يجد قلبه مشدوداً إلى قوة عليا يرجوها بلا أن يراها، ويطلب نجاته منها بلا أن يملك برهاناً حسياً عليها. تلك اللحظة ليست لحظة اكتشاف، بل لحظة انكشاف، ترفع فيها الحجب عن فطرة الإنسان، فيتذكر ما كان يعرفه دائماً، لكنه غفل عنه.

غير أن هذه الفطرة، رغم رسوخها، لا تكفي وحدها لتحديد هوية الإله الحق، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، فالهداية الإلهية لا تكتفي بوجود الإحساس الفطري بل تهب له البوصلة الواضحة حتى لا يتوه في ظلمات الشرك أو التخييل أو الوثنية، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾.

والفطرة ليست دليلاً منطقياً بالمعنى الفلسفي، بل هي شعور دائم بالمخلوقية، بالفقر، بالافتقار إلى من يملك ويعطي ويقدر، وهذا الشعور قد يُترجم بوعي سليم فيقود إلى الإيمان بالله، أو يُحرّف فيُنتج صوراً مشوهة للإيمان، كما هو حال الديانات الوثنية التي تلبي نداء الحاجة، لكنها تختار لنفسها آلهة من حجر أو بشر أو حيوان. حتى الملحد في تمرده على فكرة الله قد يكون في أعماقه يحاول الهروب من ذلك الإحساس العميق بالحاجة والتبعية، فيحاول أن يُلهي نفسه بتعظيم ذاته واختراع تفسير مادي مغلق للعالم.

في الختام، يمكن القول إن كل إنسان يولد ومعه بذرة الإيمان بالله، زرعها الله في فطرته. ولكن هذه البذرة تحتاج إلى بيئة ترعاها، وإلى تذكرة تُنبهها، وإلى عقل يتفاعل معها. فإذا غابت التذكرة، أو هيمنت الشهوات، أو ساد الجهل، ضاعت الهداية وظلت الفطرة حبيسة. ولذلك فإن وجود الانحراف في العالم لا يدل على غياب الفطرة، بل يدل على غياب التذكرة، وطمس البصيرة، واحتجاب القلب. وما أكثر ما نُذَكَّر، ولكن قليلاً ما نَتَذَكَّر.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م