
2025-06-30 19598

لماذا يشكّ بعض الشباب في الدين؟ بين ضغط الواقع وضعف المعرفة
الشيخ معتصم السيد أحمد
لم يكن التحول الجذري في قناعات
بعض الشباب تجاه الثوابت الدينية ناتجاً عن إشكالات حقيقية في صلب
العقيدة أو تعقيدات فكرية لم يجدوا لها جواباً، وإنما جاء في الغالب
نتيجة تفاعلهم السلبي مع الواقع المحيط بهم، سواء على الصعيد النفسي
أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي. فالعقيدة الإسلامية، بعمقها
المعرفي وجذورها الراسخة في العقل والفطرة، لا يمكن أن تتزعزع
بسهولة لدى من يمتلك الحد الأدنى من الوعي الديني، ما لم تتداخل
عوامل أخرى تُضعف هذا الوعي وتشوش على مساره. وهذا ما يدفعنا إلى
القول إن أصل الإشكال لا يكمن في الدين ذاته، وإنما في كيفية تلقيه
وفهمه، وفي المؤثرات التي تشتت الذهن وتحجب عن الإنسان بصيرته في
لحظة ضعف أو اضطراب.
إننا حين نتحدث عن ظاهرة الشك في
ثوابت الدين، فإننا لا نمنحها شرعية فكرية أو نبررها، بل نحاول فهم
السياقات التي سمحت بنشأتها وانتشارها، خاصة في أوساط الشباب.
فالتغيرات المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم تضع الأفراد في
مواجهة شبه يومية مع تحديات فكرية ونفسية واجتماعية، وغالباً ما
تكون هذه المواجهات غير متكافئة، لاسيما حين يفتقر الفرد إلى
الأرضية المعرفية التي تؤهله للصمود أمام رياح الشكوك والتساؤلات
الهدّامة.
من هنا، يمكن القول إن شخصية
الإنسان تمثل عاملاً وسيطاً بين العقل وبين الحقائق الموضوعية، وهي
في كثير من الأحيان لا تنقل هذه الحقائق بحيادية، بل تُعيد تشكيلها
وفقاً لانفعالاتها ومزاجها وتاريخها النفسي. ولذا فإن من يمر بأزمة
داخلية، أو يعاني من الإحباط واليأس أو التناقضات الاجتماعية
والتربوية، سينظر إلى الدين، لا كما هو، بل كما تعكسه مرآة نفسه
المضطربة. فالإشكال ليس في ثوابت الدين التي ثبتت عبر التاريخ بحجج
وبراهين دامغة، وإنما في الطريقة التي يُنظر بها إلى تلك الثوابت،
وعليه فإن المشكلة ذات طابع نفسي أكثر مما هي علمية أو
معرفية.
من المهم في هذا السياق أن نميز
بين الأسباب العامة التي تهيمن على واقع الأمة، وتشكّل أرضية خصبة
للشك والارتياب، وبين الأسباب الخاصة التي تختلف من شخص إلى آخر حسب
تجربته الفردية. فالأسباب العامة يمكن حصرها في جملة من الأزمات
التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، كالفشل السياسي والاقتصادي
والاجتماعي. هذه الأزمات أفرزت بيئة مليئة بالإحباط والخذلان، جعلت
فئة من الشباب تتبرم من واقعها وتبحث عن خلاص فردي في الأفكار
الوافدة، بما في ذلك الإلحاد أو التشكيك في الثوابت.
فالشاب الذي ينشأ في واقع مأزوم،
حيث الاستبداد السياسي والركود الاقتصادي والتهميش الاجتماعي، وحيث
يجد أن الخطاب الديني السائد لا يستجيب لأسئلته ولا يعالج همومه، بل
ربما يكون مشاركاً في تكريس أزمته من خلال تبرير الظلم وتجميل
الاستبداد، سيبدأ بالتساؤل عن جدوى الدين ذاته، لا لخلل فيه، بل
لخيبة الأمل التي شعر بها نتيجة خلط الدين بممارسات دنيوية مشوهة.
والأسوأ من ذلك حين يرى هذا الشاب أن بعض الحركات التي ترفع شعارات
الإسلام ترتكب أبشع الجرائم باسمه، مما يدفعه إلى محاكمة الدين من
خلال سلوك أتباعه، لا من خلال نصوصه ومبادئه الأصيلة.
وما يزيد من تعقيد المشكلة أن بعض
المؤسسات الدينية لم تكن على قدر التحديات الفكرية المعاصرة، ولم
تطور خطاباً تواصلياً يلامس قضايا الجيل الجديد. فغابت المقاربة
العقلية العميقة، وغلبت الأساليب الوعظية التقليدية، في وقت أصبحت
فيه وسائل التواصل تنقل للمتلقي – وبشكل مباشر – أطروحات فكرية
وفلسفية معقدة تتطلب رداً من نفس المستوى. ونتيجة لهذا الخلل في
التجاوب بين السؤال والجواب، تشكلت هوة معرفية ونفسية دفعت البعض
إلى الانزلاق خارج دائرة الثوابت.
أما فيما يخص الأسباب الخاصة،
فإنها تتعلق بالتجارب الذاتية التي يمر بها الأفراد، وهذه التجارب
تختلف من شخص إلى آخر، لكنها تشترك غالباً في طابعها النفسي
والانفعالي. فكم من شاب فقد ثقته بالدين بسبب تصرفات غير مسؤولة من
بعض من يُفترض أنهم يمثلونه؟ وكم من فتاة تأثرت سلباً بتجربة تربوية
قاسية أو تمييز ظالم باسم الدين؟ وكم من شخص تعرض لصدمات نفسية، لم
يجد من يفهمه أو يحتويه، فظن أن الدين هو من تسبب في معاناته، لا
الواقع المختل الذي لبس لبوس الدين زوراً وبهتاناً.
هذه التجارب الفردية، وإن بدت
مختلفة، إلا أنها تلتقي في نقطة واحدة: غياب الوعي الصحيح بالدين،
وانعدام الحصانة النفسية والمعرفية الكافية التي تُمكّن الفرد من
تجاوز أزماته دون تحميلها للمقدسات. والمقلق أن المنصات الرقمية
اليوم أصبحت تضخم هذه التجارب الفردية وتعرضها كحجج عقلية، مع أنها
– في جوهرها – مجرد ردود فعل نفسية لم يتم التعامل معها بحكمة
وتوجيه.
ولذلك، فإن مواجهة هذه الظاهرة لا
تتم فقط من خلال نقاشات فكرية ومناظرات علمية، بل تبدأ أولاً من
العمل على بناء الشخصية المتوازنة نفسياً، وتوفير بيئة تعليمية
وتربوية صحية تتيح للناشئة فهم دينهم فهماً عقلانياً عميقاً، بعيداً
عن التخويف أو التلقين. كما أن من الضروري مراجعة الخطاب الديني
المعاصر، وتطوير أدواته وآلياته بحيث يكون قادراً على مخاطبة
الإنسان الحديث بلغته وهمومه وأسئلته.
ومن جهة أخرى، فإن الإصلاح الحقيقي
يبدأ من الاعتراف بأن ما يحدث من انحرافات ليس سوى نتيجة حتمية
لاختلالات في النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي، وهذه الاختلالات
لن تُعالج دون أن تستعيد الأمة وعيها بدورها الحضاري، وتفهم أن
الإسلام ليس طقوساً تُمارس في المعابد، بل منظومة قيمية ومعرفية
متكاملة تنهض بالإنسان فرداً ومجتمعاً. وعليه، فإن المطلوب ليس
التخلي عن الإسلام، وإنما تحريره من شوائب التجربة التاريخية
المنحرفة، وإعادة فهمه في ضوء القرآن وسيرة المعصومين، من دون
إسقاطات الواقع المشوه.
في المحصلة، إن ظاهرة الشك في ثوابت الدين، لا تعبّر عن أزمة في العقيدة الإسلامية بقدر ما تعبّر عن أزمة في الإنسان المسلم المعاصر: أزمته في فهم ذاته، وفي مواجهة واقعه، وفي صياغة علاقته مع ربه ودينه ومجتمعه. ولذا فإن أول خطوة في العلاج هي التمييز بين الدين في ذاته، والدين كما يُفهم أو يُمارس، بين الإسلام كرسالة، والمسلمين كواقع، والاعتراف بأن الطريق إلى تجديد الإيمان يمر عبر تجديد الفهم، وإصلاح النفس، وتهذيب الوجدان.
الأكثر قراءة
32426
19406
14915