

حين يتكلم الدم: الحسين (ع) في مقاومة القهر والباطل
الشيخ معتصم السيد أحمد
ما الذي يجعل واقعة كربلاء حاضرة في الضمير الإنساني بعد أكثر من ألف عام؟ ولماذا لا تزال دماء الحسين عليه السلام تغلي في الوجدان وتثور في وجه الظلم كلما حاول الاستبداد أن يطغى أو حاول الباطل أن يعلو؟ إن الجواب لا يكمن في حجم المأساة فقط، بل في عمق الرسالة التي جسدها الحسين في كربلاء، رسالة الصبر والثبات والكرامة، التي لا يمكن أن تبلى أو تُنسى، لأنها ببساطة ليست مجرد ذكرى، وإنما هي شعلة تنير طريق الحق، ودمٌ يهدي إلى الله.
لقد أثبت الإمام الحسين عليه السلام أن القوة الحقيقية لا تكمن في السلاح والعدة، بل في الإيمان الراسخ والمبدأ الثابت. ففي كربلاء، لم يكن الحسين يملك جيشاً جراراً، ولا حلفاء من الملوك والأمراء، بل كان يمتلك قلباً عامراً بالإيمان، وروحاً مستعدة لأن تبذل كل شيء من أجل إعلاء كلمة الحق. وهنا يكمن السر الذي يجعل من كربلاء أعظم من معركة، إنها كانت موقفاً خالداً، أعلن فيه الحسين أن سيوف الأرض كلها لا تستطيع أن تُجبر قلباً مؤمناً على الكفر، ولا عقلاً بصيراً على الخنوع، ولا ضميراً حياً على التنازل عن مبادئه.
هذه الحقيقة التي علمنا إياها الحسين في كربلاء، لا تزال تصفع كل من يظن أن الطغيان قادر على قهر الإيمان. لقد قدم الإمام في ذلك اليوم الخالد أعظم درس في أن الإنسان يمكن أن يُقتل ولكن لا يُهزم، وأن الدم يمكن أن يُراق، ولكنه إذا أُهريق في سبيل الله، فإنه يتحول إلى نهر من النور يهدي الأجيال.
الحسين عليه السلام لم يكن شهيداً فقط، بل كان معلماً، صنع من شهادته مدرسة للكرامة، ومن دمه رسالة للحق، ومن صبره طريقاً إلى الله. ولهذا، فإن تاريخه ليس مجرد فصل في كتاب، وإنما هو محور في تاريخ الإنسانية، لأنه جسّد كيف يمكن للإنسان أن يعلو على الموت، ويُشعل من جراحه منارة للأحرار في كل زمان ومكان.
وصدق من قال: إن تاريخ الأمم هو تاريخ شهدائها، فأعظم الشعوب تلك التي تنجب رجالاً يهبون دماءهم من أجل أن تبقى المبادئ حيّة، والحضارة يقظة. وإذا كان لكل أمة شهيد، فإن الحسين هو شهيد الإنسانية كلها. لقد كان أكثر الشهداء إخلاصاً، وأصدقهم عزيمة، وأشجعهم في بذل الدم عن طيب نفس. ولم يكن استشهاده مجرد نهاية بطولية، بل كان صرخة في وجه الزيف، وإعلاناً بأن الحق لا يموت حتى لو طُعن في قلبه ألف مرة.
في كلماته الأخيرة، قال الحسين: "إلهي، إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى". كم تحمل هذه العبارة من صدق التسليم، وعلو الروح، وتمام الإيمان؟ إنها ليست مجرد عبارة لحظات أخيرة، بل هي قمة في الوعي العقائدي والرضا الكامل بالمصير، ومظهر من مظاهر العشق الإلهي الذي لا يقف عند حدود الجسد، بل يتعداه إلى روحٍ ترى في الشهادة اكتمالاً للمسيرة، وتقديماً لأغلى ما تملك في سبيل الرضا الإلهي.
ولهذا، فإن كربلاء لا تختزل فقط في صورة الدماء، بل تختزل في هذا الموقف الإيماني الرهيب، الذي ينزع من الموت رهبته، ويحول القبر إلى مهد لثورة خالدة، ويصنع من الذبح على الرمال شعلة تتحدى الظلم إلى يوم القيامة.
الحسين عليه السلام لم يعلمنا فقط أن نثور، بل علّمنا متى نثور، وكيف نثبت، ولماذا نضحي. فقد اختار بوعيه الكامل أن يواجه الباطل، مع أنه كان يعلم أن المواجهة قد تنتهي بشهادته. لكنه أراد أن يقول لنا: إن الحياة بلا كرامة لا تُطاق، وإن الصمت على الظلم خيانة للحق، وإن الإنسان لا يكون إنساناً ما لم يكن حراً، وما لم يكن مستعداً لدفع ثمن حريته.
لقد علمنا الحسين أن نختار الإيمان في مواجهة الشرك، والحق في وجه الباطل، والخير في وجه الشر، والصلاح في وجه الفساد، حتى وإن كلفنا ذلك كل شيء. وهنا تتجلى عظمة الحسين، لا في سيفه، ولا في نسبه، بل في موقفه، وثباته، وإيمانه، وصبره الذي لا يلين.
ولذلك لا نستغرب أن يستمر دمه في الغليان، ليس لأنه لم يهدأ، بل لأن المبدأ الذي استُشهد من أجله لا يزال يحتاج إلى من يحمله، لأن الصراع بين الحق والباطل لم ينتهِ، ولن ينتهي ما دام في الأرض مستكبر وظالم وفاسد. ودم الحسين هو الصوت الذي يفضح هؤلاء ويذكرنا بأننا إن سكتنا اليوم، فقد نخسر كل شيء غداً.
إن دم الحسين يهدي إلى الله، لا لأنه دم عادي، بل لأنه دم ارتفع في محراب الشهادة، واختلط بتراب كربلاء ليصنع من كل ذرة فيه منارة تهدي الحيارى، وتنير درب الباحثين عن الحق. هو دم يتكلم، ويشهد، ويقاوم، وينتفض، ويثور.. لأنه لم يُسفك في سبيل رغبة بشرية، أو طموح شخصي، بل في سبيل الله، ولأجل الإنسان، ومن أجل بقاء الكرامة في هذه الأرض.
لهذا، فكل من يسعى لإصلاح نفسه أو أمته أو واقعه، لا بد أن يمر بكربلاء، ويتعلم من الحسين، ويغتسل بدمه، ويقف عند قوله: "هيهات منا الذلة"، لأن من لا يقولها بصدق، فهو مرشح للذل، ومن لا يؤمن بها، فهو شريك في الهوان.
إننا اليوم، أمام عالم تتزايد فيه أشكال الظلم والفساد، وتُستباح فيه الكرامات، وتُسحق فيه الشعوب، بحاجة إلى استذكار الحسين لا كحالة عاطفية فقط، بل كموقف وميزان، نزن به الأفعال، ونحكم به على الواقع. من كان مع الحق فهو مع الحسين، ومن كان مع الاستبداد فهو مع يزيد، ولو لبس قناع الدين أو دعاوى الإصلاح.
فكربلاء لا تزال تنبض في ضمير العالم، ودم الحسين لا يزال يهدر في عروق كل من يأبى الذل. وفي هذا الدم، يكمن الطريق إلى الله، لأنه دم طاهر، سال من جسد طاهر، لأجل غاية طاهرة.
فهل نكون ممن ينهلون من هذا الدم الهداية؟ أم نغفل عن الرسالة ونكتفي بالبكاء؟
ذلك هو التحدي، وتلك هي الثورة التي لن تموت.