

الثورات التي تأكل أبناءها... إلا ثورة الحسين
الشيخ مصطفى
الهجري
عندما نتأمل في طبيعة الثورات الكبرى عبر التاريخ، نجد أن لها خصائص مميزة تجعلها تتجاوز حدود الزمان والمكان لتصبح منارات هداية للأجيال. وفي هذا السياق، تقف ثورة الإمام الحسين عليه السلام كنموذج فريد يستحق الدراسة والتأمل العميق.
إن الثورات الحقيقية، كما يشير المفكرون، "تحتاج إلى مراحل في النمو"، وكما يقول غوستاف لوبن: "تغير مصائر الشعوب ولكنها لا تنجز معظم أهدافها إلا بطريقة بالغة البطء". هذه الحقيقة تكشف لنا أن من العلامات الحيوية للثورات الكبرى أنها تحقق أهدافها عبر الأجيال، وليس في لحظة واحدة أو جيل واحد.
وعندما نطبق هذا المفهوم على ثورة الإمام الحسين عليه السلام، نجد أن كلنا نعرف أن ثورة الحسين في ميزان التفكير السطحي تبدو وكأنها لم تحقق هدفاً، بل تبدو في وقتها وكأنها حققت فاجعة كانت البشرية في غنى عنها. لكن هذا النظر السطحي يحجب عنا الحقيقة الأعمق والأهم.
إن ثورة الحسين عليه السلام استطاعت في الميزان الواعي أن تمشي وفق قائمة طويلة من الأهداف مع أيام طويلة من الشهور والسنين والأجيال أيضاً. فما بدا كهزيمة في لحظة تاريخية معينة، تحول إلى انتصار عظيم يتجدد عبر القرون، ويلهم الأجيال للثورة على الظلم والطغيان.
لقد قالوا إن الثورة الحقيقية لا تؤتي أكلها إلا إذا سكنت في روح الجموع، وحتى تحقق ذلك فإنها تحتاج إلى إحياء وتفاعل بطرق شتى. وإن هذا أمر واضح على الثورة الحسينية العظيمة، ومن هنا انبثقت الشعائر الحسينية - الموزون منها طبعاً - التي تكون كما يريد الحسين، أي التي تأخذ من الجانب العقلاني والجانب العاطفي والديني، ولا تأخذ الجانب الجمعي فقط، فإن الحالة الجمعية آفة ربما أضرت حتى ببعض شعائر الإمام الحسين.
الإمام الحسين: رسول الثورة وليس مجرد قائدها
يقول الدارسون إن الثورات في نسبة كبيرة منها تواجه إشكالية عظيمة، وهي أن قادة الثورات يقدرون الأمور بذكائهم ولكنهم يتصرفون بطباعهم. فكم قائد إذا عجز عن الذكاء في موقف العمل تصرف بطبعه؛ لذلك ترون في المساحات الديمقراطية من العالم رغم شعاراتها لم تستطع أن تتغلب على مشكلات من هذا القبيل.
انظر كيف تُجري بعض الدول العظمى مناظرات بين مرشحي الرئاسة تسبق جولة الانتخابات، فتراهم يتحدثون بما يجذب الشعوب لأنهم يتحدثون بذكائهم، ولكن بعد التولي قد يثيرون السخط العام لأنهم يديرون كفة السياسة بطباعهم! ومن هنا فشل الكثير من قادة الثورات.
وهذا ما يذكرنا بالثورة الفرنسية التي قامت ولكن في غضون 50 سنة صارت تشهد سلسلة من الثورات وكل ثورة تثور على الثورة التي قبلها، وكذا الثورة العباسية رفعت شعار العدالة وتحدثت عن المبادئ بذكاء البشرية، ولكنها بعد أن استولت قامت على الأمور بالطبع الشقي والمنفلت.
وهذا ما يؤكد لنا أن الثورة الإلهية لا غنى لها عن المعصوم في القول والعمل، ولا يناسبها سوى المعصوم أو المستعصم بحبل الله وهو القرآن والسنة، من حيث يتوافق طبعه مع تفكيره. فكان المعصوم هو الحسين عليه السلام، وكان المستعصم من قبيل مسلم بن عقيل والعباس بن علي وغيرهم الذين مشوا كما قدّر الذكاء والعطاء الشرعي، لا كما تقدّر الطباع الغرائزية.
إن الثورة الحسينية تقدم لنا نموذجاً فريداً في التاريخ الإنساني، حيث اجتمع فيها الصدق مع الحكمة، والعدالة مع الرحمة، والقوة مع الأخلاق. إنها ثورة لم تنته بموت قائدها، بل بدأت معه، وستبقى تتجدد عبر الأجيال كلما احتاج الإنسان إلى الثورة على الظلم والطغيان، والعودة إلى القيم الإلهية السامية.