10 محرم 1447 هـ   6 تموز 2025 مـ 6:16 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-07-05   19

يزيد ودم الحسين: الجريمة التي لا تسقط بالتقادم

الشيخ معتصم السيد أحمد

تُعدّ واقعة كربلاء واحدة من أعمق الجراح التي لا تزال نازفة في وجدان الأمة الإسلامية، ليس لأنها مأساة إنسانية فريدة فحسب، بل لأنها كشفت عن حجم الانحراف الذي بلغته السلطة الأموية في تعاملها مع رموز الدين والحق. فقد قُتل سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الإمام الحسين بن علي (عليه السلام)، وأهل بيته وأصحابه بأبشع صورة عرفها التاريخ، في جريمة لم تكن خافية ولا ملتبسة، بل وقعت على رؤوس الأشهاد. ورغم هذا الوضوح الفاضح، لا يزال البعض يحاول التخفيف من مسؤولية يزيد بن معاوية، وتصوير ما حدث على أنه نتيجة فوضى محلية صنعها الكوفيون أو قرارات فردية من ولاته. إلا أن مراجعة الأحداث بوعي وتحليلها في سياقها السياسي والعقائدي يكشف أنها لم تكن وليدة الصدفة أو عثرة في مسار الأحداث، بل كانت ثمرة خطة ممنهجة، قادها يزيد نفسه، وارتكبت باسمه، وعلى عهده، وتحت سلطانه.

 

فعند مراجعة التاريخ السياسي لبني أمية، يتضح أنهم لم يتوانوا عن قمع أي صوت يمثل تهديداً لسلطانهم، خصوصاً إذا كان هذا الصوت يستند إلى شرعية دينية، والإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن مجرد معارض سياسي، بل كان حفيد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وامتداداً لخط النبوة والحق، وممثلاً للخلافة النبوية التي كانت شوكة في خاصرة الحكم الأموي الغاصب.

 

حين تولى يزيد الخلافة بعد موت والده معاوية، سارع إلى تثبيت سلطانه عبر فرض البيعة من الرموز الدينية والسياسية في الأمة، وعلى رأسهم الإمام الحسين (عليه السلام). لم تكن البيعة هنا مجرد إجراء شكلي، بل كانت تعني ـ بنظر يزيد ـ مصادقة الحسين (عليه السلام) على حكمه، وهو ما رفضه الإمام رفضاً قاطعاً. ولهذا أرسل يزيد كتاباً إلى واليه على المدينة، الوليد بن عتبة، يأمره فيه بأخذ البيعة من الإمام عنوة، أو قتله إن رفض. فقال في رسالته: "إذا أتاك كتابي فاحضر الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير فخُذهما بالبيعة، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليّ برأسيهما، وخُذ الناس بالبيعة فمَنْ امتنع فانفذ فيه الحكم، وفي الحُسين بن علي وعبد الله بن الزّبير، والسّلام" (تاريخ اليعقوبي، ج2، ص215).

 

هذا النص يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن يزيد كان يرى في الحسين عدواً يجب إسقاطه بأي وسيلة، ولو كانت القتل. وهذا ينسف تماماً مقولة أن يزيد لم يكن مسؤولاً عما جرى في كربلاء.

 

وعندما غادر الإمام الحسين (عليه السلام) المدينة إلى مكة، ثم منها إلى الكوفة، لم يكن يزيد غافلاً عن تحركاته، بل كان يلاحقه بالمراسلات والدسائس. ويشهد عبد الله بن عباس في رسالته إلى يزيد بقوله: "وما أنس من الأشياء فلست بناس اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللّه (ص) إلى حرم اللّه، ودسك إليه الرجال تغتاله، فاشخصته من حرم اللّه إلى الكوفة فخرج منها خائفا يترقب..." (تاريخ اليعقوبي، ج2، ص221).

 

يتّضح من هذه الشهادة التاريخية أن يزيد لم يكن فقط مطّلعاً على تحركات الحسين (عليه السلام)، بل كان يوجهها بما يخدم هدفه النهائي، وهو التخلص منه. كما يُظهر النص أن الإغتيال لم يكن خارج حسابات السلطة، وأن تتبع الإمام كان استراتيجية محكمة.

 

أمّا قرار قتل الحسين (عليه السلام) فقد نُفّذ بيد عبيد الله بن زياد، الذي ولاه يزيد على الكوفة والبصرة، وعيّنه مسؤولاً ميدانياً مباشراً لمواجهة الحسين (عليه السلام). وعبيد الله لم يكن يتصرف من تلقاء نفسه، بل كان ينفذ أوامر واضحة من يزيد، وتثبت هذا رسالة يزيد إليه بعد مقتل مسلم بن عقيل، والتي جاء فيها: "فقد كفيت وصدقت ظني ورأيي فيك ... وقد بلغني أنّ الحُسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر واحترس واحبس على الظنّ، واكتب إليّ في كلّ يوم بما تجدّد لك..." (الفتوح، ج5، ص109).

 

والأخطر من ذلك ما أورده ابن الأثير، عن أن عبيد الله بن زياد صرّح لاحقاً بقوله: "أما قتلي الحسين، فإنه أشار علي يزيد بقتله أو قتلي، فاخترت قتله" (الكامل في التاريخ، ج4، ص140).

وهذا النص في غاية الأهمية، لأنه ينسف الحجة القائلة بأن عبيد الله تصرف بشكل فردي، بل يؤكد أن القرار اتخذ على مستوى رأس الدولة الأموية.

 

ومن الشهادات التي لا يمكن تجاهلها أيضاً، موقف علماء من أهل السنة الذين لم يجدوا مبرراً لتبرئة يزيد، بل أكدوا مسؤوليته الأخلاقية والجنائية. ومن هؤلاء:

التفتازاني في شرح العقائد النسفية حيث قال: "اتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين، أو أمر به، أو أجازه، أو رضي به، والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول الله مما تواتر معناه وإن كان تفصيله آحاداً، فنحن لا نتوقف في شأنه، بل في كفره وإيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه" (شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، ج1، ص68).

 

ومع أن هناك من يحاول الدفع بأن يزيد لم يباشر القتل بيده، فإن منطق السياسة والتاريخ يثبت أن رأس الدولة يتحمل مسؤولية ما يقع من قرارات كبرى، خاصة إن كانت منسجمة مع توجهه ومصالح سلطانه، ومدعومة منه بالرسائل، والمال، والرجال. كما أن استقباله لرأس الحسين (عليه السلام)، وتعامل بلاطه مع سبايا آل البيت، كل ذلك يكشف عن تماهي يزيد مع الجريمة، لا مجرد سكوته عنها.

 

لقد أراد يزيد أن يطفئ بنحر الحسين نور الحق، فأوقد بذلك شعلةً لن تنطفئ أبداً. وكان يظن أن السيف هو الغالب في نهاية المطاف، فإذا بالدم ينتصر عليه، وإذا بالحسين ـ رغم كل ما جرى عليه ـ هو المنتصر الخالد في ضمير الأمة، ويزيد هو المهزوم أمام التاريخ والمبدأ والوجدان. فإن مَن يُقتل مظلوماً لا ينتهي، بل يبدأ؛ ومَن يَقتل ظلماً لا يَنتصر، بل يسقط، ولو بعد حين. ولذلك بقيت كربلاء مناراً للثائرين، ودروسها خالدة في الوعي الجمعي، لأن دم الحسين لم يكن هزيمة، بل كان قمة الانتصار، وصرخةً خالدةً في وجه كل طاغية على مرّ العصور.

 

إن دم الحسين (عليه السلام) ليس دماً يمكن أن يُطوى في صفحات التاريخ، أو أن يُسقط عنه اللوم بالتقادم، لأن الجريمة التي ارتُكبت لم تكن جريمة فردٍ ضد فرد، بل كانت جريمة نظام سياسي استباح كل مقدّس في سبيل البقاء على الكرسي. لقد تحوّلت كربلاء إلى معيار خالد للحق والباطل، وبقيت دماء الحسين تصرخ في ضمير الأمة، شاهدة على من قتل ومن رضي ومن سكت. ولذا، فإن الحديث عن مسؤولية يزيد ليس اجتراراً لماضٍ مضى، بل هو تأكيد على أن العدالة لا تموت، وأن الظلم لا يُنسى بمجرد تعاقب السنين.

 

ولئن أفلت يزيد من محكمة الدنيا، فإن العدالة الإلهية لا تغفل ولا تموت، فقد جعل الله لدم الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد، وجعل لمظلوميته صوتاً لا يسكت، وحوّل صرخته في كربلاء إلى ضميرٍ حيٍّ في وجدان الأجيال، يهدي من أراد الحق، ويوقظ من ران على قلبه الغفلة. وهذا بحد ذاته وجه من وجوه القصاص الإلهي، فكم من ظالم طغى فطُوي ذكره، وكم من شهيد مات فحيا في الأمة إلى الأبد.

 

 فكربلاء لم تكن مجرد واقعة عسكرية عابرة في صفحات التاريخ، بل كانت فاصلاً وجودياً بين معسكرين: معسكر الحق المتمثل في الحسين (عليه السلام)، ومعسكر الباطل المتجسد في يزيد ومن يسير على نهجه. لقد تجاوزت المعركة حدود الزمان والمكان، لتحوّل كربلاء إلى ميزان يُقاس به كل صراع بين العدل والجور، وكل مواجهة بين المبدأ والانحراف. ولهذا لم تكن جريمة يزيد في قتل الحسين (عليه السلام) جريمةً بحق شخص واحد فحسب، بل كانت طعنة في قلب الأمة، وخيانةً لرسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله). ومن هنا، ظل اسم يزيد غارقاً في سواد اللعنة التاريخية، في حين بقي اسم الحسين متلألئاً بنور الحق، مشعّاً في ضمائر الأحرار، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م