12 محرم 1447 هـ   8 تموز 2025 مـ 9:48 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-07-07   17045

حين أصبح الموت سعادة: كيف غيّر الحسين مفهوم الموت؟


الشيخ مقداد الربيعي
يُعدّ مفهوم الموت من أكثر المفاهيم إثارة للخوف والرهبة في النفس البشرية، فقد اعتاد الناس على ربطه بالعدم والفناء والانقطاع عن الحياة. لكن الإمام الحسين عليه السلام في ثورته الخالدة في كربلاء، استطاع أن يُحدث ثورة حقيقية في فهم الموت ومعناه، حيث حوّله من مفهوم مخيف إلى مفهوم يُغري الناس بالتضحية في سبيل الله والمبادئ العظيمة. فكيف تمكن الإمام الحسين من هذا التحويل الجذري؟ وما هي أبعاد هذا التغيير في مفهوم الموت؟

الجهل بحقيقة الموت
إن أحد أهم أسباب خوف الناس من الموت هو جهلهم بحقيقته الكاملة. فالموت في أذهان عامة الناس مقروناً بالعدم، كما أن الحياة مقرونة بالوجود، وبما أن الوجود خير من العدم، فالناس ترى الموت شراً مطلقاً.

وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى هذا الجهل العميق بحقيقة الموت قائلاً: «لم يخلق الله يقيناً لا شك فيه أشبه منه بشك لا يقين فيه كالموت». (تحف العقول، ص364). هذا الجهل يؤدي إلى التساهل الذي نراه من البعض، فإن هناك رابطة بين معرفة الإنسان للموت وما ورائه وبين محافظته على جمال خلقه وحسن سلوكه؛ وذلك لأن الإيمان بالموت يعد من أجهزة التحكم بسيرتنا في الحياة الخاصة والعامة.

وقد نجح الإمام الحسين عليه السلام في تحويل مفهوم الموت جذرياً من خلال موقفه التاريخي في كربلاء. فبدلاً من أن يكون الموت نهاية مخيفة، أصبح بداية حقيقية للحياة الأبدية، فباختياره خط الموت قد نصر ثقافة الوعظ بالموت، وبيّن أن الحياة قد تكمن في الموت وأن الحياة يمكن أن تكون أول ربح وأعظم ربح للموت الصالح والذي يقع على خط سبيل الله عز وجل. وهذا ما عبّر عنه بقوله الشريف: «إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً». وهي عين الحقيقة التي أشار اليها قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، أي أن الصحيح هو الإيمان بأن الموت في سبيل الله هو مقارنة بين وجود ناقص ووجود كامل وليس مقارنة بين وجود وعدم.

الموت بهذا المعنى يفل العُقد، ومنها عقدة الاستسلام، فقد أظهر أن ترك الموت والفرار منه يفضي إلى الاستسلام والمذلة. وهذا المعنى العميق انعكس على الثقافة الشيعية، حيث برز الشعر الحسيني بشقيه الفصيح والشعبي حقيقة الموت وأبرز كامل خصائصه. وقد عبّروا عنه في أشعارهم:
يرى الموت أولى من ركوب دنية ولا يغتدي للناقصين عديلا. (مطالب السؤول، الجزء 1، الصفحة 58)
وقال آخر:
خلدتك الأيام جيلاً فجيلاً ولذا عشت في الزمان خليلا
يوم ناديت يا سيوف خذيني أبت النفس أن تعيش ذليلا" (المنتخب للطريحي، الصفحة 100)

كما أنه ـ أي الموت ـ خيار أصحاب الفطرة السليمة، خاصة حينما تكون ثمن الحياة الكفر أو الانسلاخ من القيم ليصبح الإنسان في حضيض الحيوانية فتمسخ فيه الفطرة، وإن الخيار الأنسب لهكذا حياة هو الموت ليس غير!!
وقد عبّر الشعراء عن هذا المفهوم قائلين:
إذا كانت الأبدان للموت أنشئت فقتل الفتى بالسيف لله أعظم 

وقد استمر تأثير النموذج الحسيني عبر التاريخ، حيث استلهم منه حتى أولئك الذين لم يكونوا من أتباع أهل البيت. فهذا مصعب بن الزبير عندما واجه الموت التفت إلى عروة بن المغيرة وقال: ويحك يا عروة حدثني عن الحسين بن علي كيف صنع في حربه عبيد الله بن زياد؟ فجعل يحدثه عن الحسين وكيف قتل قال مصعب لنا أسوة بأبي عبد الله الحسين. (البداية والنهاية لابن كثير، الجزء 8، الصفحة 347).

لكن كيف يتغير مفهوم الموت عند الإنسان؟ 
إن تغيير مفهوم الموت عند الإنسان يتطلب تحولاً جذرياً في نظرته للحياة ومعاييره في التقييم، فإن الإيمان الذي يشكل الدافع وراء كل ما تقدمه مما يترك أثراً على نفسك أو على غيرك يجب أن يتجرد من الحسابات والقياسات المادية، وهذا لا يتم إلا بأن تتخلص من التوجه إلى نفسك حين إنجاز أي عمل أو مشروع له الأثر الموزون بميزان الحسنات.
إن السبيل الحقيقي لتحويل مفهوم الموت هو أن تجعل كل قوة قلبك التي تنبع منها إرادتك متوجهة لله عز وجل وهذا المعنى يقتبس من الدعاء القرآني الوارد في مفتتح الصلاة: ﴿إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾.
ويشرح العلامة الخاجوئي في شرحه لمفتاح الفلاح من تأليف الشيخ البهائي هذا المعنى قائلاً: «الوجه هنا هو وجه القلب ومن المعلوم أن وجه القلب إنما يتوجه به إلى الله عز وجل بعد الانصراف عما سواه، فإنه بمنزلة المرآة كلما أقبلت بها إلى شيء انطبع فيها واستدبر غيره، فلا ينطبع فيها، فالصادق في هذا القول (هو) من صرف وجه باطنه إلى الله بالانصراف عما سواه» (شرح مفتاح الفلاح، الصفحة 144).

أصحاب الحسين: نموذج حي للزهد في الدنيا
لقد كان أصحاب الإمام الحسين عليه السلام المثال الأوضح لهذا التحول في مفهوم الموت من خلال زهدهم في الحياة الدنيا وإقبالهم على الآخرة. فقد تجردوا من كل الحسابات المادية والشخصية، وصرفوا وجوه قلوبهم إلى الله تعالى، فلم تعد الدنيا تشغل بالهم أو تؤثر في قراراتهم.
لقد رأى أصحاب الحسين في الموت في سبيل الله والدفاع عن الحق أشرف من العيش في الذل والهوان. فتخلصوا من التعلق بالدنيا وزينتها، ولم تعد الحياة عندهم مقياساً للربح والخسارة، بل أصبح الموت في سبيل الله هو الربح الحقيقي والحياة الأبدية.
إن هؤلاء الأبطال قد انصرفوا عما سوى الله، فلم تعد أموالهم أو أهلهم أو حياتهم تشكل عندهم قيمة تُذكر أمام رضوان الله تعالى. وهكذا تحول الموت عندهم من مصدر خوف إلى مصدر شوق، ومن نهاية مخيفة إلى بداية مباركة.
لقد كان الإمام الحسين عليه السلام صاحب راية الموت للحياة الأبدية وقد أضاء للناس باطنهم وصحح قياس الموت واستقامت النتيجة وبين لهم أن الموت رمز الحياة. فبموقفه العظيم وتضحيته الجليلة، علّم الناس كيف يمكن للإنسان أن يتحرر من قيود الدنيا وحساباتها المادية، وأن يرتقي إلى مستوى التوجه الكامل إلى الله تعالى.
وهكذا أصبح الموت في المدرسة الحسينية ليس مجرد انتقال من حالة إلى أخرى، بل تحول جذري في مفهوم الحياة نفسها، حيث يصبح الموت في سبيل الله هو الحياة الحقيقية، والحياة مع الظالمين هي الموت الحقيقي.
وفي الختام..لقد نجح الإمام الحسين عليه السلام في إحداث ثورة حقيقية في مفهوم الموت، حيث حوّله من رمز للفناء والعدم إلى رمز للحياة الأبدية والكرامة. وقد تحقق هذا التحول من خلال الزهد في الدنيا والتوجه الكامل إلى الله، كما جسده أصحابه الأبرار الذين ضربوا أروع الأمثلة في التجرد من الحسابات المادية والإقبال على الآخرة. إن ثورة الحسين في كربلاء لم تكن مجرد حدث تاريخي مضى، بل مدرسة حية تعلم الإنسانية كيف يمكن للموت أن يكون بداية الحياة الحقيقية عندما يكون في سبيل الله والحق.


جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م