17 محرم 1447 هـ   13 تموز 2025 مـ 5:08 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-07-07   4452

من المداراة إلى الفاجعة: تحوّلات السياسة الأموية تجاه الحسين عليه السلام


الشيخ مصطفى الهجري
حين نتتبع مسار العلاقة بين الإمام الحسين بن علي عليه السلام والدولة الأموية، يظهر لنا مشهد شديد التوتر، تغذّيه عوامل متعددة: الهيبة الشعبية للإمام، والموروث النبوي الحذِر من الإساءة إليه، والتخبط السياسي في مراكز القرار الأموي. لقد تعامل الأمويون مع الحسين عليه السلام تعاملًا يشوبه التردد والخوف من ناحية، والانفلات والاندفاع من ناحية أخرى، تبعًا لتيارات متباينة داخل جهاز الحكم.

الحسين في وجدان الأمة: حضور لا يُقاوم
ما من شك أن الحسين عليه السلام لم يكن مجرد شخصية دينية أو حفيد نبي، بل تحوّل في وجدان الأمة إلى رمزٍ أخلاقي وسياسي وروحي. كانت محبته تسكن القلوب، وهي محبة لم تكن مجرد عاطفة بل تحولت إلى مواقف عملية عبّر عنها المسلمون بكل وضوح. فقد ورد أن الحسين وأخاه الحسن إذا خرجا حاجين، ترجل كل من يمر بهما احترامًا، حتى ضاق ذلك على بعض الناس من كثرة من يترجل، فطلبوا إليهما أن يركبا أو يتنكبا الطريق، فقالا: «لا نركب، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا، ولكنا نتنكب عن الطريق» (الإرشاد، ص281).

بل إن مظهر الحسين كان يأسر الناس هيبةً وجلالًا. فقد حدد معاوية لرجل غريب يريد أن يفد على مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله كيف يجد الحسين، فقال له: «إذا دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه واله فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله! (ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر، الحديث 189). هذه الكاريزما، أو الجاذبية الفريدة، جعلت الإمام في منزلة استثنائية في وجدان الأمة، فحتى المنحرفين من أعداء اهل البيت عليهم السلام كانوا يرون أن الناس قد أحلّت بالحسين محلّ جده وأبيه وأمه وأخيه، فهو قد ورث القلوب بعدهم فصار هؤلاء الساسة يجارون الشعبية العامة للحسين عليه السلام.

أبو هريرة نفسه، الصحابي المشهور، جلس مرة ينفض الغبار عن قدمي الحسين بطرف ثوبه، فقال له الحسين: "تفعل هذا؟"، فأجابه أبو هريرة: "دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم" (المصدر نفسه، الحديث 191).

هذا الإجماع الشعبي، بل شبه القداسة في مكانة الحسين، لم تكن قابلة للتفسير السياسي أو الأمني. فكما أشار أحد الباحثين في علم النفس الاجتماعي: "إن الحسين عليه السلام جاء بأمثل صفات وأخلاقيات السلوك القيادي، وهو ما عُرف بشعار: اعملوا كما أعمل، وليس كما أقول" (علم النفس الاجتماعي، ص385–386). وهذا النوع من القادة لا يمكن مواجهته بسهولة.

معاوية بين السياسة والحذر
كانت الدولة الأموية تدرك هذا الواقع الشعبي المحيط بالإمام الحسين، ولذلك فإن معاوية بن أبي سفيان لم يتعامل معه كما تعامل مع سائر معارضيه. لم تكن المواجهة المباشرة خيارًا مريحًا بالنسبة له، فكتب إلى واليه على المدينة: «وانظر حسينا خاصة فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقًا عظيمًا لا ينكره مسلم ولا مسلمة» (الإمامة والسياسة، ص179). وكتب الوليد بن عتبة إلى عبيد الله بن زياد محذرًا: «فاحذر يا ابن زياد أن تبعث إليه رسولًا فتفتح على نفسك ما لا تختار من الخاص والعام» (الفتوح، ج5، ص70).

كان واضحًا أن معاوية، رغم دهائه وشدة قبضته، فضّل مداراة الحسين. فقد كان يدرك أنه ليس مجرد فردٍ من آل علي، بل رمز ديني واجتماعي له تأثير على ضمير الأمة، يصعب احتواؤه بالقوة أو التهديد.

يزيد وعبيد الله: رعونة تقطع خيط السياسة
بخلاف هذا التيار المتعقّل في بني أمية، كان هناك جناح آخر، يتصف بالاندفاع والتفكير القصير الأمد، يتمثل في يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد. هذا التيار لم يكن معنيًا بحسابات الرأي العام أو محاذير التاريخ، بل تحرك بمنطق القوة المجردة عن الحكمة.

لقد أشار الباحث محمد جواد الطبسي إلى هذا الانقسام داخل الجهاز الأموي، فيخلص الى إن الدولة الأموية في حينه متمثلة في تيارين: أحدهما يرى أن المواجهة العنيفة مع الحسين ليست في صالح الحكم الأموي... والثاني لا يرى بدًا من المواجهة، وهو التيار الأرعن، ومن وحوشه يزيد وعبيد الله بن زياد. (انظر: وقائع الطريق من مكة إلى كربلاء، ص42–45).

لقد اتخذ هذا التيار القرار الحاسم بقتل الإمام، رغم إدراكه الكامل لعواقب ذلك، لا على المستوى السياسي فحسب، بل على الوجدان الإسلامي كله. وهو ما يفسّر المواقف المتشنجة والمترددة حتى من داخل أروقة الحكم، فالوثائق تشير إلى أن البعض كان يتخوف من مجرد فتح باب التواصل مع الحسين، خوفًا من انهيار شرعية النظام.

السر في استثنائية كربلاء
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا تعاملت السلطة الأموية مع الحسين بهذه الحساسية الشديدة؟

الجواب – كما يبين الباحثون – يعود إلى أن الحسين كان يمثل لحظة التقاء نادرة بين شرعية النسب، ونقاء السيرة، وكمال القيادة، فضلاً عن أن الأحاديث النبوية في حقه لم تكن قابلة للتأويل أو التضعيف. وكان الناس يعلمون أن النبي قال فيه وفي أخيه: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وأنه قال: «حسين مني وأنا من حسين».
ومستندات التاريخ في هذا الموضوع طوع رغبة الباحث، فقد سأل مروان بن الحكم الوليد والي المدينة عن سبب عدم قتله الحسين، فقال: «ولِمَ لم تقتله وهو في مجلسك وقد عنفك وأغلظ لك في الكلام؟ فقال له الوليد: إن ذلك لدم مضنون في بني عبد مناف». (ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر، الحديث292).
وقول عبد الملك في وصيته للحجاج بزين العابدين عليه السلام: «أما بعد فجنبني دماء بني هاشم واحقنها فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها لم يلبثوا بعدها إلا قليلا». (المصدر نفسه، الصفحة: 260).

لهذا السبب، فإن أي مساس بالحسين لم يكن مجرد عمل عسكري أو سياسي، بل كان تصادمًا مباشرًا مع الضمير النبوي نفسه، وهو ما جعل الجريمة لا تُمحى، بل تتجدد لعنتها مع كل جيل.

خاتمة
سياسة بني أمية مع الإمام الحسين عليه السلام تكشف عن ارتباك بين الحذر من شعبيته الجارفة، والرغبة في حسم الصراع مع أهل البيت. بينما كان معاوية يداري ويحاذر، اختار يزيد وعبيد الله بن زياد طريق الرعونة والدم، فكان أن كتبوا نهايتهم التاريخية بأيديهم، وجعلوا من الحسين رمزًا خالدًا للثورة، لا تمحوه العصور، ولا تبهت مكانته في القلوب.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م