17 محرم 1447 هـ   13 تموز 2025 مـ 4:37 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-07-07   3841

من الحرّ إلى عمر بن سعد: جدلية النصرة وعبودية الدنيا


الشيخ مصطفى الهجري

الحديث عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام لا يُختزل في الشعارات أو المظاهر الخارجية، بل هو موقف وجودي وروحي عميق، يُعبّر عن تحوّل داخلي في الإنسان يحرّره من أغلال الدنيا وشهواتها، ويجعله أهلاً للوقوف مع الحسين لا عليه.


لقد تجلّت نصرة الحسين عليه السلام بأبهى صورها في أصحاب كربلاء الذين سبقوا غيرهم إلى ميادين التضحية، لا لأنهم أقوى جسداً أو أكثر عدّة، بل لأنهم كانوا أحراراً من الداخل، أحراراً من حب المال والجاه والخوف على النفس والأهل، وهذا هو جوهر النصرة الحقيقي.


الإمام الحسين عليه السلام أشار إلى لبّ هذه المعركة حين خاطب أعداءه قائلاً: «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم». فالحرية هنا ليست حرية الحركة أو الكلام، بل هي حرية القلب والعقل من سطوة الدنيا واستعبادها، وهي مفتاح نصرة الحسين عليه السلام في كل زمان.


حين نتأمل في حال أصحاب الحسين، نجد أن ما ميّزهم لم يكن فقط شجاعتهم، بل قدرتهم على التحرر من التعلقات الدنيوية. فقد تخلوا عن كل ما يمتّ إلى دنياهم بصلة، وجعلوا ولاءهم للحسين وللحق فوق كل اعتبار. كانوا يعلمون أن الوقوف مع الحسين سيكلفهم حياتهم، لكنهم كانوا قد حرّروا نفوسهم من الخوف ومن حب البقاء، فصارت الشهادة لديهم طريقاً للحياة الأبدية.


ومن الأمثلة البارزة على هذا المعنى، شخصية الحر الرياحي، الذي شكّلت لحظة انقلابه من معسكر يزيد إلى معسكر الحسين محطة فارقة في التاريخ. لم يكن الحرّ غافلاً عن من هو الحسين، لكنه كان ممزقاً بين نداء قلبه وقيود موقعه العسكري. وحين دقت ساعة الحسم، رجحت كفة الإيمان، فانسلخ من جيش الباطل، وذهب بقلب حرّ ليكون أول من يُستشهد في سبيل الحسين.


في المقابل، يتجلى نقيض هذه النصرة في شخصية عمر بن سعد، الذي وُعد بملك الري إن هو قاتل الحسين. تردّد عمر بن سعد، لكنه في النهاية اختار الدنيا، فباع دينه وآخرته بعرض زائل من متاع الدنيا. لم يستطع أن يتحرر من طموحه الدنيوي، فسقط في أسوأ صورة للعبودية: عبودية الدرهم والدينار. وقد لخّص الإمام الحسين هذه المأساة حين قال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم».


هذه المفارقة بين أصحاب الحسين وأعدائه توضّح أن النصرة ليست مجرد موقف آني أو انفعال مؤقت، بل هي ثمرة لتحرر روحي طويل، يجعل الإنسان قادراً على اختيار الحق ولو خالف هواه ومصلحته.


أما اليوم، فليس المطلوب منا أن نواجه سيوفًا، لكن المطلوب أن نكون أنصارًا حقيقيين للحسين عليه السلام. وهذا لا يتمّ إلا إذا تحرّرنا من سطوة الدنيا، وأخلصنا قلوبنا قبل أبداننا. فكثيرون يحضرون المجالس ويظهرون الحزن، لكن نصرة الحسين لا تتحقق إلا حين يكون القلب خالصًا له، بعيدًا عن التعلّق بالمناصب، أو حب الوجاهة، أو المظاهر الدينية الخالية من الروح.


إنّ الطريق إلى نصرة الحسين يبدأ من داخلنا. من تحرير النفس من كل ما يمنعها أن تقول "لبيك يا حسين" بصدق. فكما أن أصحاب الحسين تحرروا من قيود الدنيا، يجب علينا نحن أن نُحرّر أنفسنا من الأصنام المعاصرة: المال، الشهرة، الأنانية، والكسل الروحي.


في النهاية، النصرة الحقيقية للحسين عليه السلام هي أن نكون مع الحق حيثما كان، وأن نرفض الظلم ولو على حساب أنفسنا، وأن نعيش أحراراً في قلوبنا، لأن الحسين لا ينصره إلا الأحرار.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م