
2025-07-29 618

زيارة الأربعين... عندما يسير التاريخ على درب الحسين لا على خُطى الطغاة
الشيخ معتصم السيدأحمد
من يقرأ التاريخ بعينٍ مفتوحة، لا
يمكن أن يغفل عن الصراع العميق بين منطقين متناقضين شكّلا مسيرة
الأمة الإسلامية منذ انطلاقتها الأولى: منطق السلطة ومنطق الرسالة.
منطق يرى في استقرار الحكم غايةً بحد ذاته، ولو على حساب القيم
والعدالة، ومنطق يرى في المبادئ جوهر الدين، ولو كلّف الثمن دماً
وسبياً وتضحيات. هذا التباين لم يكن يوماً خلافاً جزئياً أو فرعياً،
بل هو انقسام جذري في الرؤية والفهم والسلوك، وما زال يلقي بظلاله
الثقيلة على واقع الأمة حتى يومنا هذا.
لقد أدرك الخط الرسالي منذ اللحظة
الأولى أن السلطة حين تتحوّل إلى هدف، تنقلب على الدين وتُطوّعه
لخدمتها، فتُحرف مفاهيمه، وتُشيّد لها تاريخاً على مقاس مصالحها،
وتُنتج وعياً زائفاً يجعل من الطغاة أولياء أمر، ومن المقاومين
خارجين على الجماعة. ولهذا، لم يكن موقف الحسين عليه السلام مجرّد
خلافٍ على شخص الخليفة، بل تمرداً على هذا المنطق السلطوي من جذوره،
وتمسكاً بمنطق الرسالة الذي لا يقبل التزييف ولو بقي صاحبه وحيداً
في الصحراء.
ومن هنا نفهم سرّ الإصرار الشيعي
على إحياء ثورة الحسين، ليس لأن الحسين ابن بنت رسول الله فحسب، بل
لأنه الممثل الأسمى لمنطق الرسالة في وجه منطق السلطة. وإن كانت
عاشوراء قد كشفت عمق المأساة، فإن زيارة الأربعين تُجسد عمق الموقف،
فهي ليست مجرد ذكرى، بل استحضار حيّ لصراعٍ لم ينتهِ، وتحريك لوعيٍ
يحاول الطغاة تغييبه.
فحين تمشي الملايين على طريق
الأربعين، فهي لا تعيد تمثيل حدثٍ ماضٍ، بل تُعلن انتماءها إلى
مشروع الحسين، وترفض منطق بني أمية بكل تمظهراته القديمة والمعاصرة.
هذا الحشد الإيماني ليس طقساً شعبياً أو فعلاً عاطفياً، بل فعل
مقاوم، يقول للتاريخ: لم ننسَ، ولن ننسى، ولسنا على طريقكم، بل على
طريق من صرخ «هيهات منّا الذلة».
إن السلطة عبر التاريخ، ومنذ يزيد
وحتى اليوم، كانت تخشى هذا الوعي. ولهذا عملت وما تزال تعمل على
تحريف التاريخ، وتشويه رموز المعارضة الرسالية، واتهامهم بالخروج
على الجماعة، والفتنة، والتمرّد، بينما تُسبغ على الطغاة ألقاب
الراشدين والعادلين والمجتهدين. وفي المقابل، كان أتباع الحسين
يرفضون هذه السردية، ويصرّون على بقاء الحقيقة كما هي: أن عاشوراء
لم تكن خلافاً سياسياً، بل مفترق طريق بين منطقين، كلٌّ منهما يُنتج
رؤية مختلفة للعقيدة والمجتمع والدولة والإنسان.
زيارة الأربعين بهذا المعنى هي
أكثر من مناسبة، إنها تمرين سنوي على الانحياز الواعي لمنطق الثورة
على منطق الاستسلام، ولمنطق التضحية على منطق التبرير، ولمنطق الدين
كرسالة على الدين كغطاء للسلطة. ولهذا يحرص الموالون لأهل البيت على
إحياء هذه الزيارة، لأنها تُرسّخ هوية تُرفض فيها كل أشكال التزييف
الديني والسياسي، وتُستعاد فيها الحقيقة من بين ركام التاريخ
الرسمي.
ومن هنا نفهم أيضاً لماذا يُشنّ
الهجوم على هذه الزيارة كل عام، ولماذا تُتهم بالتخلف أو الطائفية
أو الإسراف، فليست القضية في المشي، بل في المعنى الذي يحمله هذا
المشي، المعنى الذي يُحرج أنظمة وحكومات وحركات تستبطن منطق يزيد
وإن رفعت شعار الإسلام. فالمسير إلى الحسين هو مسيرٌ ضدهم، وضد كل
من يريد أن يُصادر وعي الأمة ويُجمّد حركتها ويُلوّن دينها بلون
السلطة.
لقد وعى الشيعة هذه الحقيقة، ولهذا
لا يتعاملون مع الأربعين كذكرى باهتة، بل كنبض مستمر، يُجدّد فيهم
عهد الثورة، ويُذكّرهم بأن الإسلام الذي انطلق من كربلاء لا يُمكن
أن يُختم في قصور الخلفاء، وأن الدين ليس ما دوّنه المؤرخون
المقرّبون من السلطان، بل هو ما كتبه الحسين بدمه، وسار به زين
العابدين وأخته العقيلة على طريق السبايا، ليُصبح هذا الطريق هو
الطريق الحقيقي لفهم الإسلام والتاريخ والواقع.
فزيارة الأربعين، حين تُفهم في هذا
السياق، تُصبح تجسيداً عملياً للانحياز إلى جبهة المقاومة في وجه
جبهة التواطؤ، ولمنطق الإصلاح في وجه منطق التبرير، ولنهج الحسين في
مقابل نهج يزيد. إنها معركة الروايتين، وملحمة الذاكرة، وراية لا
تزال تُرفرف رغم قرون من القمع والتشويه.
إن زيارة الأربعين ليست مجرد حدثٍ
عابر في تقويم المسلمين، بل هي الشاهد الأبلغ على أن كربلاء لم
تنته، وأن منطق الثورة لم يخمد، وأن المعركة بين منطق السلطة ومنطق
الرسالة ما تزال قائمة في عقول الناس وسلوك المجتمعات. فكل خطوة
يخطوها الزائر على طريق الحسين هي إنكارٌ عملي لكل محاولات طمس
الحقيقة، وكل دمعة تُذرف على روضته هي إعلان وفاء للمظلوم ورفضٌ
للظالم.
وفي عالم تتشابك فيه الخيانات،
وتُسوّق فيه الانبطاحات على أنها واقعية سياسية، تبقى الأربعين صرخة
وجدان لا تقبل أن يُغلف الظلم بغلاف الدين، ولا أن يُقدَّم الصمت
على أنه حكمة، ولا أن يُزيَّف التاريخ ويُدجَّن الحاضر.
فمن يسير على درب الحسين، لا يسير
إلى ضريح فحسب، بل يسير إلى وعيه، إلى موقفه، إلى مشروعه، ويعود من
الزيارة محمّلاً بعهدٍ جديد: أن لا يقف مع الظالم، ولا يصمت عن
الفساد، وأن يكون من حملة الرسالة لا من خدم العرش.
وهكذا، تبقى زيارة الأربعين وعداً
متجدداً بأننا، ما دمنا نُحيي الحسين، لن نُخدع بتاريخ يُكتَب في
قصور الطغاة، ولن نترك راية الإصلاح تسقط، لأننا ببساطة... نسير على
درب الحسين، لا على خُطى الطغاة.
الأكثر قراءة
33579
19550