
2025-08-20 631

من المسؤول عن تنقية التراث الإسلامي؟ جدلية الاختصاص بين الفقيه والمثقف والفنان
الشيخ معتصم السيد أحمد
حين يُطرح سؤال: من يتحمل مسؤولية
تنقية التراث الإسلامي؟ يبدو للوهلة الأولى أن الجواب محسوم لصالح
المؤسسة الدينية، فهي الطرف المعني ظاهرياً بكل ما يتصل بالشأن
الإسلامي، سواء في أبعاده العقائدية أو الفقهية أو الفكرية. غير أن
هذا الافتراض الأولي سرعان ما يتبدد إذا وسّعنا زاوية النظر إلى
التراث الإسلامي بوصفه وعاءً حضارياً لا يقتصر على الدين بمفهومه
الضيق، بل يمتد ليشمل كل ما أنجزه المسلمون من علوم ومعارف وفنون
وآداب وعمران عبر قرون طويلة. وعليه، فإنّ التراث الإسلامي ليس
ملكاً حصرياً للفقيه، كما أنه ليس ساحة مغلقة أمام تدخلات المثقف أو
الفنان، بل هو ميدان واسع تتوزع مسؤولياته بحسب طبيعة محتواه،
واختصاص من يتعامل معه.
فالتراث الإسلامي بالمعنى الشامل
يتضمن إنتاج المسلمين في مجالات متعددة: من الفقه والحديث والتفسير،
إلى الفلسفة والفكر والعقيدة، ومن الفنون التشكيلية والموسيقى
والعمارة، إلى الأدب والشعر واللغة. وهذا التنوع المعرفي يفرض
بطبيعته تعددية في الجهات المعنية بإعادة قراءته أو تنقيته أو
تطويره. فحين نتحدث عن العمارة الإسلامية مثلاً، لا يمكن بحال من
الأحوال أن يُناط الأمر بالفقيه وحده، بل لا بد من أهل الهندسة وفن
التصميم والمعمار. وكذلك إذا تحدثنا عن الشعر أو المسرح أو الموسيقى
في التجربة الإسلامية، فإن المفكر أو المؤرخ الأدبي أو الفنان هو
الأجدر بمقاربة هذا النوع من التراث.
ولكن الإشكال يبرز حين تطغى صورة
"التراث الديني" على مفهوم "التراث الإسلامي"، فينحصر النظر في
إنتاج المسلمين ضمن النصوص الفقهية والعقائدية والتفسيرية، وتُغيب
بقية الجوانب التي شكّلت مكوّناً أصيلاً من التجربة الحضارية
الإسلامية. وحين يحدث هذا الاختزال، يظهر الميل إلى تحميل الفقيه
وحده مسؤولية كل ما يتصل بالتراث، في حين أن ذلك تجاوزٌ غير دقيق
لطبيعة التخصص، كما أنه يُقصي مساهمات فئات أخرى قادرة على التعامل
مع جوانب مهمة من هذا التراث برؤية أوسع وأكثر إبداعاً.
وفي المقابل، ثمة مغالطة أخرى لا
تقل خطورة، وهي تلك التي تسعى إلى فتح المجال أمام الجميع، بحجة أن
"الدين للجميع"، وبالتالي يحق لأي مثقف أو فنان أو صحفي أن يُبدي
رأيه في المسائل الدينية الدقيقة، ويخوض في قضايا العقيدة والفقه
والتفسير، وكأنها علوم لا تحتاج إلى أدوات ولا إلى مناهج تخصصية.
وهذه المغالطة باتت تتكرر في الخطاب الثقافي العام، حين يُصور الأمر
وكأن من يرفض تدخل غير المختصين في التراث الديني إنما يحتكر الدين،
بينما الحقيقة أن الدين كخطاب تكليفي وإنساني هو موجه لكل الناس،
أما العلوم الدينية فهي مثلها مثل باقي العلوم الأخرى، تحتاج إلى
دراسة منهجية طويلة، وتتطلب أدوات معرفية واضحة.
فالعلوم الإسلامية – كما هو الحال
في الطب والهندسة والفيزياء والاقتصاد – لها موضوعاتها ومنهجياتها،
ولا يُقبل فيها الكلام من غير المختصين، كما لا يُؤخذ فيها بالرأي
العامي أو الاستنتاج المرتجل. فعلم أصول الفقه مثلاً ليس ساحة
للتجريب الثقافي، ولا علم الكلام مجالاً للتساؤلات العفوية، بل هما
من العلوم الدقيقة التي تراكمت عبر قرون من الجهد العلمي، وتحتاج
إلى خلفيات فلسفية ومنطقية ولغوية عميقة. والأمر نفسه ينطبق على علم
الرجال والحديث والتفسير والعقيدة وغيرها.
ومع أن كل مسلم له حق الاهتمام
بالعلوم الدينية، إلا أن هذا الاهتمام لا يُخوله تلقائياً الحق في
إصدار الأحكام أو ممارسة النقد العلمي، ما لم يكن مستنداً إلى أدوات
راسخة ومعايير منهجية معترف بها. ومن هنا فإن القول بأن "الدين
للجميع" لا يعني أن "العلم الديني" مشاع للجميع بنفس المستوى. فهناك
فرق جوهري بين حق الإنسان في الاعتقاد والممارسة، وبين أهلية
الإنسان لإبداء الرأي في بنية النصوص وتحليل دلالاتها وتشخيص
الأحكام المستنبطة منها.
وعليه، فإن تنقية التراث الإسلامي،
إذا فهمنا التنقية بمعناها العلمي النقدي، لا يمكن أن تُمارس خارج
منطق التخصص. فتنقية التراث الفقهي أو العقائدي أو الحديثي، لا بد
أن تكون على يد أهل العلم المتمرسين في هذا المجال. كما أن مراجعة
التراث الأدبي والفني والمعماري تتطلب خبراء من تلك الحقول. أما
المثقف – بمفهومه العام – فيمكن أن يلعب دوراً تكاملياً، من خلال
ربط هذه الجهود ببعضها، والمساهمة في نشرها وتبسيطها، لكن لا يمكن
له أن يحلّ محل المتخصص، كما لا يمكن للفنان أن يستبدل الفقيه، ولا
للفقيه أن يصادر حق المؤرخ أو المفكر أو المعماري.
ومن المهم هنا التمييز بين "الحق
في التساؤل" و"الحق في التدخل". فطرح الأسئلة حول بعض الإشكالات في
التراث، كوجود نصوص تُناقض روح العصر أو تسكت عن قضايا مصيرية، هو
من حق كل مسلم واعٍ. لكن تقديم الأجوبة القطعية، أو إصدار الأحكام،
أو تحديد ما ينبغي أن يُحذف أو يُبقى، هي من مسؤولية المختصين، كلٌّ
في مجاله، وإلا فإننا سنقع في فوضى معرفية لا تُنتج نقداً، بل تُنتج
تشويشاً.
هذا الفهم المتوازن لعلاقة التخصص
بالتراث يُمكن أن يُنتج بيئة علمية ناضجة، يتحاور فيها الفقيه مع
المثقف، ويتكامل فيها المفكر مع الفنان، دون أن يُلغى أحدهما الآخر،
ودون أن يُصادر أحدهم دور الآخر. فالتراث الإسلامي ملك للأمة كلها،
لكنه ليس ساحة مباحة للفوضى الفكرية أو الخطاب الإعلامي المنفلت، بل
هو مسؤولية جماعية تُوزّع بحسب نوعية التراث وطبيعة التخصص.
وإذا أردنا فعلاً أن ننقِّي تراثنا
الإسلامي ونُعيد قراءته لصالح الحاضر والمستقبل، فلا بد أن نحترم
التخصصات، ونبني الجسور بينها، ونمنع التصادم بين أهل العلم وأهل
الفكر، بين الفقيه والمثقف، بين المرجعية الدينية والمجتمع الثقافي،
لأن التراث لا يُنقّى بالصراع، بل بالتكامل، ولا يُجدد بالإقصاء، بل
بالتفاعل المسؤول.
وفي زمن تتكاثر فيه الأصوات التي
تدّعي تجديد الدين دون علم، وتطالب بتفكيك التراث دون أدوات، تصبح
الحاجة ماسة إلى تأصيل ثقافة نقدية رصينة، تُميز بين من يطلب
الحقيقة بعلم، ومن يتعامل مع التراث كمنجم للجدل أو مادة للاستفزاز
الإعلامي.
وختاماً، فإن سؤال: من المسؤول عن
تنقية التراث الإسلامي؟ ليس سؤالاً عن شخص بعينه أو جهة محددة، بل
عن طبيعة المنهج الذي يُفترض أن نحمله ونحن نُقارب هذا التراث. فمن
دون منهج، يتحول التراث إلى عبء، ومن دون تخصص، يتحول النقد إلى
عبث، ومن دون وعي جماعي ناضج، يتحول التاريخ إلى ساحة معارك لا
تنتهي.
الأكثر قراءة
33752
19573