
2025-08-20 1301

وهم الخلافة: كيف سيطرت الذاكرة التاريخية على المشروع السياسي الإسلامي؟
الشيخ معتصم السيد أحمد
لا يمكن فهم المشروع السياسي لدى
الحركات الإسلامية السنية دون الرجوع إلى الذاكرة التاريخية التي
شكلت بنيتها الفكرية وساهمت في بلورة رؤيتها تجاه نظام الحكم.
فالفكر السياسي السني، بعكس نظيره الشيعي الذي تأسس على فكرة
الانتظار والغيبة، تشكّل في حضن السلطة، ونشأ متأثراً بتجربة
الخلافة الإسلامية التي هيمنت على التاريخ الإسلامي قرابة تسعة
قرون. هذه الخلافة التي حكمت خلالها قبيلة واحدة – هي قريش – أسّست
وعياً دينياً جماعياً ربط الإسلام بالدولة، وربط الشرعية السياسية
بالبيعة، والطاعة للخليفة، واعتبار الخروج عليه خروجاً عن الدين
نفسه.
في هذا السياق، نشأ ما يمكن تسميته
بـ"الوجدان السياسي التقليدي" للأمة، حيث تم تأطير فكرة الخلافة
كجزء لا يتجزأ من العقيدة، لا مجرد مؤسسة سياسية. ولم يكن من
المسموح لأي مسلم أن يفكر خارج هذا الإطار، فكل محاولات الخروج على
الخليفة كانت تُقابل بالقمع والقتل تحت راية "سيف الإسلام"، كما حدث
لأهل المدينة في واقعة الحرة، حيث استُبيحت المدينة المنورة، وكما
هدمت الكعبة بالمنجنيق، وقُتل الإمام الحسين في كربلاء، وصُفّي كبار
الصحابة كحجر بن عدي وسعيد بن جبير، وغيرهم، على يد السلطات
السياسية الحاكمة. كانت الخلافة، إذن، مؤسسة حديدية لا تقبل الشك
ولا النقد، وفرضت على الأمة تصوراً قاهراً أن لا إسلام بلا خليفة،
ولا جماعة بلا بيعة، ولا شرعية بلا طاعة.
توارثت الأجيال هذا التصور، حتى
باتت الحركات الإسلامية المعاصرة تنظر إلى الخلافة بوصفها الشكل
الوحيد الممكن للحكم الإسلامي، وتحوّلت الفكرة إلى نوع من الحنين
السياسي، الذي لم يعد يفرّق بين الدين كتجربة رسالية وبين السلطة
كتجربة بشرية. ومن هنا، نجد أن الإسلاميين السنة يعجزون – في الغالب
– عن مقاربة الخلافة كمؤسسة سياسية بشرية، نشأت في سياق تاريخي
معين، وتطورت وفق معادلات القوة والعصبية والوراثة، وليس وفق الوحي
أو التعاليم الإلهية.
إنّ اللحظة التأسيسية التي شكلت
هذا المسار بدأت من سقيفة بني ساعدة، حيث تم حسم مسألة الخلافة
لصالح قريش، وتم إقصاء الأنصار الذين طالبوا بتقاسم السلطة، على
قاعدة أن يكون منهم الوزراء ومن قريش الأمراء. ومن هنا بدأ الانغلاق
السياسي، ونُزعت من الأمة أي إمكانية للشراكة الحقيقية في الحكم.
ومن الطبيعي أن تترك هذه اللحظة آثاراً عميقة في الوعي الإسلامي، إذ
أن كثيراً من الكوارث السياسية والفتن الكبرى التي عصفت بالدولة
الإسلامية يمكن إرجاعها إلى ذلك الاحتكار المبكر للسلطة.
وقد ناقش المفكرون هذا الموضوع منذ
عقود، وتساءلوا: هل كانت الخلافة الإسلامية تعبيراً عن روح الدين
الإسلامي، أم أنها كانت تجربة سياسية دنيوية لفئات معينة؟ وبرغم أن
الإجابة بداهية عند من يحلّل التاريخ بوعي نقدي، إلا أن الوعي العام
ما يزال يتحرك ضمن التصور الأول، حيث تُقدَّس الخلافة بوصفها شعيرة
دينية، ويُعامل خلفاؤها معاملة الأنبياء.
من هنا، نفهم لماذا تصر قيادات
الحركات الإسلامية على استحضار نموذج الخلافة كمرجعية مطلقة. ففي
رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين، كتب حسن البنّا تحت عنوان
(الإخوان المسلمون والخلافة):
«ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض
لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك إنَّ
الإخوان يعتقدون إنَّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط
بين أمم الإسلام، وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في
أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين
الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر
في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة،
واطمأنوا إلى إنجازها.
ثم يقول: والإخوان المسلمون لهذا
يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا
يعتقدون إنَّ ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها،
وإنَّ الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات، لابد
من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها،
يلى ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه
البلاد.. حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على
(الإمام) الذى هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل
الله في الأرض».
هذا التصور الذي أعلنه حسن البنّا
لا يسعى إلى إقامة دولة إسلامية قُطرية، بل إلى حكومة موحدة للعالم
الإسلامي تحت قيادة خليفة واحد. وهو تصور مستمدّ بالكامل من الذاكرة
التاريخية، لا من النصوص القرآنية أو متطلبات العصر.
ويُعدّ أبو الأعلى المودودي في
باكستان – وهو الأب الروحي للجماعات الإسلامية في شبه القارة
الهندية – من أبرز من نظّر لفكرة الخلافة في إطار ما سمّاه
بـ"حاكمية الله"، حيث كتب في كتابه «نظرية الإسلام»: «إنَّ الدولة
الإسلامية تقوم على أساس حاكمية الله الواحد، فالأمر والحكم
والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب
ولا حتى النوع البشري كله، وإنَّما تكون لحاكم يقوم بوظيفته خليفة
الله، فليس لأحد أن يأمر وينهي من غير أن يكون له سلطة من
الله».
والعجيب أن هذه السلطة الإلهية
التي يشير إليها، تتجسد في الحاكم الذي تدين له كل هذه الدول حتى لو
كان وصوله إلى الحكم بالقهر والغلبة، كما دانت لمعاوية وابنه يزيد،
وسائر حكام بني أمية وبني العباس. وهذا هو التفسير المنطقي لما
قاله، طالما لم يبيّن كيف يكون للحاكم سلطة من الله، ولم ينصّبه
الله بشكل مباشر لهذا المنصب؟
وبالمثل، نجد رشيد علي رضا، أحد
رموز النهضة الإسلامية في القرن العشرين، يتحدث عن الخلافة في كتابه
«الخلافة أو الإمامة العظمى» بنفس النزعة التقديسية، فيقول:
«الخلافة الإسلامية هي الحكومة المثلى التي بدونها لا يمكن أن يتحسن
حال البشرية.. فهي خير دولة ليس بالنسبة للمسلمين فحسب ولكن بالنسبة
لسائر البشر».
وهذا الادعاء العريض، لا نجد ما
يؤكده في واقع الخلافة التاريخية، سوى النظرة القدسية غير النقدية
لما أنجزه سلف الأمة.
وعلى النهج ذاته يسير عمر عبد
الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية في مصر، والذي أفتى باغتيال أنور
السادات، وقاد الهجوم على مديرية أمن أسيوط في حادثة مروعة قُتل
فيها 118 من رجال الشرطة، حيث كتب في كتابه (حتمية المواجهة):
«الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة
الدنيا بالدين».
ففكرة الخلافة، في نظر الإسلاميين
السنة، ليست مجرد شكل من أشكال الحكم، بل هي حلم متجذر، ومجد ضائع،
يبكون على فواته ويتحسرون عليه في كتاباتهم وخطبهم. فها هو سليم
العوا – من أبرز الشخصيات الفكرية الإخوانية – يعبّر عن هذا الحنين
بمرارة عندما يقول: «منذ إنهارت الخلافة العثمانية تفرقت قوة
المسلمين، وتمكن عدوهم من السيطرة على مقدرات بلادهم
جميعاً».
ولم تبقِ هذه الدعوات حبيسة الكتب
والتنظيرات، بل وجدت طريقها إلى الواقع في صور متعددة، تكشف عن
محاولات جادة – ولو محدودة – لتجسيد نموذج الخلافة في العصر الحديث.
فقد ادعى بعضهم منزلة الخليفة، ودعا الناس إلى مبايعته، كما فعل
شكري مصطفى، زعيم جماعة "التكفير والهجرة"، وهي الجماعة التي اغتالت
وزير الأوقاف حسن الذهبي عام 1977، حيث نصب شكري نفسه "أميراً"،
وسمّى جماعته بـ(جماعة الحق في آخر الزمان)، وكان يطلق على نفسه لقب
(طه المصطفى شكري أمير آخر الزمان).
وكذلك فعل الملا عمر في أفغانستان،
حين بايعته حركة طالبان على "إمارة المؤمنين"، وبايعه لاحقاً أسامة
بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة. ثم جاء الإعلان الأوضح والأخطر لمشروع
الخلافة على يد تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف إعلامياً
بـ(داعش)، عندما أعلنوا خلافتهم بعد سيطرتهم على أجزاء واسعة من
العراق وسوريا، ونصّبوا أبا بكر البغدادي "خليفة للمسلمين"، وأمروا
جميع المسلمين بمبايعته. وقد توافد عشرات الشباب من مختلف أنحاء
العالم لمبايعة هذا المشروع، حتى تحوّلت الخلافة – في هذا النموذج –
من مجرد طموح فكري إلى كابوس دموي، أصبح مصدر قلق للعالم
بأجمعه.
لكن المعضلة الكبرى التي تكشفها
هذه النماذج جميعاً، من شكري مصطفى إلى البغدادي، ليست في طريقتها
الفجّة فقط، بل في مرجعيتها الفكرية نفسها، التي تستمد مشروعية
السلطة من تصورات غير واقعية، وتعيد إنتاج تجربة تاريخية كانت في
كثير من محطاتها قائمة على القهر لا على الشورى، وعلى الغلبة لا على
رضا الأمة. إن ما يجمع بين هذه النماذج هو الغفلة عن السياقات
الزمنية والمعرفية المعاصرة، فالدولة الحديثة لا تُبنى بالبيعة
العابرة، ولا بالخطاب التعبوي، ولا يمكن أن تُدار بمنطق التمكين
الفوري، أو بالاستدعاء الآلي لنماذج القرون الوسطى.
إنّ أخطر ما في هذه النزعة هو
التداخل المربك بين الدين والسياسة، حيث يُمنح الحاكم صفة دينية
تتجاوز المساءلة، ويُعطى شرعية مطلقة باسم "خلافة النبوة" أو
"حاكمية الله"، دون أي آلية عقلانية لمحاسبته أو تقويمه. هذا
التقديس للحاكم، وإن كان موروثاً من الفقه السلطاني، إلا أنه في
الحركات المعاصرة اتخذ شكلاً أشد راديكالية، حيث تُختزل الأمة كلها
في "بيعة"، ويُختزل الإسلام في "إمارة"، وتُلغى كل مقومات التنوع
والاجتهاد والمشاركة.
إنّ إحياء الخلافة بهذا الشكل لا
يخدم الإسلام، بل يضعه في مواجهة مباشرة مع قيم العصر، ويفتح الباب
واسعاً أمام خصومه لتصويره كدين لا يقبل المدنية ولا يعرف التعددية
ولا يعترف بحقوق الإنسان. وهكذا تتحول الخلافة من مشروع وحدة إلى
مشروع صراع، ومن أمل سياسي إلى أداة تبرير للتطرف والاستبداد، وهو
ما يستدعي مراجعة شاملة وعميقة لهذه الفكرة، بعيداً عن الوجدانيات
التاريخية، وبمنهج نقدي يعيد للفكر الإسلامي قدرته على التجدد
والتفاعل مع الزمان والمكان.
وهكذا تكرست في الوعي الإسلامي
السنّي صورة الخلافة كمشروع غيبي مقدّس، لا تقبل المراجعة، ولا
يُسمح بمساءلتها. ولم تفرّق الحركات الإسلامية بين الدين كوحي،
والتاريخ كصنعة بشرية، فباتت تكرر النموذج الأموي أو العباسي وكأنه
حكم إسلامي بالمعنى الإلهي، رغم ما فيه من تجاوزات ودموية.
الأكثر قراءة
33752
19573