

حروب الردّة أم صراع على الشرعية؟
الشيخ معتصم السيد أحمد
لم تكن الساعات الأولى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه واله) مجرد انتقال هادئ للسلطة، بل كانت تموج بأحداث سياسية متلاحقة في المدينة، وسط مساعٍ حثيثة من السلطة الوليدة لاستمالة المعارضين من بني هاشم ومن التفّ حولهم. وفي هذا المناخ المتوتر برز خارج المدينة تمرد واسع جرى توصيفه لاحقاً تحت عنوان "حروب الردّة". غير أن هذا الوصف، في كثير من صوره، لم يكن توصيفاً محايداً للواقع بقدر ما كان أداة سياسية لنقل المعارضة من خانة النزاع على الشرعية إلى خانة الخروج من الدين؛ وبذلك يصبح القمع عملاً دينياً مشروعاً لا يحتاج إلى حوار فكري أو تفاوض سياسي.
هذه الآلية لم تكن استثناءً في التاريخ الإسلامي، إذ كثيراً ما أُلصقت تهمة الردّة أو الزندقة بكل ثورة على السلطان، حتى أُريد للحسين بن علي عليه السلام أن يبدو "خارجاً على دين جده"، لولا أن سطوع الحقيقة بقي أقوى من الدعاية.
وإذا احتفظنا بهذه الخلفية ولم نستبعدها في تحليل تلك الظاهرة، قد نجد أن حركة المعارضة على أبي بكر وُصفت بالردة أو أُلحقت بالمرتدين من هذا الباب، أي ملاحقتها دينياً من أجل حصرها وتحجيمها، ومن ثم رميها في دائرة الخروج على إرادة الله وسلطانه. وبهذا تحقق السلطة التبرير الثقافي الذي يسمح لها بتصفيتها عسكرياً لا فكرياً وحوارياً. وهذا ما حدث، حيث عاجلت مالك بن نويرة وعشيرته بالقتل قبل أن يُشهروا سيفاً واحداً في وجه السلطة، بل قُتلوا غيلة وصبراً. ومن هنا نفهم حرص الدولة ومدى العجلة التي كانت تحركها لضرب المتمردين. ولا يمكن أن نتصور أن سبب هذا الإصرار والتصميم على الحرب كان بدافع ديني محض؛ إذ إن الدين لم يقض بقتل مانعي الزكاة في أي حكم من أحكامه، وكان بالإمكان إرسال كبار الصحابة لاستيضاح الأمر ومحاججتهم إن كان لهم حجة في منع الزكاة، وهذا ما كان يتوقعه أصحاب مالك بن نويرة وبعض مانعي الزكاة. فلم يجهزوا أنفسهم لقتال جيش الخليفة، ولم يبدؤوا بالزحف نحوه، لكنهم تفاجأوا بانقضاض الجيش عليهم بعد أن سلموا أسلحتهم، فقُتلوا وهم أسرى بين يديه. ثم انتُقم منهم من غير أي مبرر شرعي، إذ قُطعت رؤوسهم وجُعلت أثافيَّ للقدور. وهذا أمر لا يمكن تفهمه ولا إيجاد مبررات كافية له. ولذا نجد أن مدرسة الخلافة صوّرت ذلك في إطار حرص الخليفة على الإسلام، ونسجت حوله فضائل وبطولات، وحوّلت الأمر إلى منقبة من مناقبه، وإنجاز عُدّ من أهم إنجازاته.
لقد كان المجتمع الذي وحّده النبي ﷺ على قاعدة التوحيد لا يزال يحمل رواسب قبلية عميقة، ولم يكن من السهل أن يتسالم على قيادة جديدة غير قيادة الرسول. لذلك تحرّكت كثير من القبائل على أساس قبلي موازٍ للمعيار الذي احتجّت به قريش نفسها في السقيفة: «من ينازعنا سلطان محمد ونحن عشيرته؟». فإذا جاز الاحتكام للمعيار القبلي في إثبات أحقية قريش بالخلافة، فكيف يُدان الاحتكام القبلي ذاته حين تمارسه قبائل أخرى ترى لنفسها حقاً موازياً أو ترفض الخضوع السياسي لسلطة قريش؟
ولا يُفهم مما قدمنا أننا ننكر وقوع الارتداد من الأساس، فقد ظهر بالفعل من ادّعى النبوة ودعا الناس إلى نفسه، كمسيلمة وطليحة والأسود العنسي وسجاح، غير أن ذلك كله كان في حياة رسول الله ﷺ. أما الذي حرّك الأجواء بعد وفاته، ودفع الخليفة إلى الإسراع في القتال، فكان بالدرجة الأولى حركة مانعي الزكاة من جهة، وبعض القبائل الطامعة في السلطة التي بادرت بمهاجمة المدينة من جهة أخرى. وهذه الظواهر ينبغي أن تُقرأ في سياقها السياسي أكثر مما تُقرأ في إطارها الديني.
ولكي نفهم الأحداث فهماً أدق، لا بد من تفكيك توجهات تلك الحركات وتمييز دوافعها، حتى لا نقع في معالجة التاريخ بتصورات محدودة ورؤية قاصرة. فبذلك فقط نستطيع أن نضع كل حركة ضمن أهدافها وظروفها الخاصة. كما ينبغي ثانياً الوقوف على الدواعي التي دفعتها، والظروف التي هيأت لها مجال النشوء والانتشار والتوسع، وهو ما يمكّننا من قراءة مساراتها ضمن رؤية شاملة تتسم بالموضوعية وتقترب من الواقع.
فقد ميز الشيخ الطوسي في المبسوط بين المرتدين بقوله: «أهل الردة بعد رسول الله (ص) ضربان: منهم قوم كفروا بعد إسلامهم، مثل مسيلمة وطليحة والعنسي وأصحابهم، وكانوا مرتدين بالخروج من الملّة بلا خلاف. والضرب الثاني: قوم منعوا الزكاة مع مقامهم على الإسلام وتمسّكهم به، فسُمّوا كلهم أهل الردة، وهؤلاء ليسوا أهل ردة عندنا وعند الأكثر» (المبسوط، الطوسي: 7،267).
ويشهد لذلك أيضاً تقسيم ابن عبد البر حيث قال: «وكانت الرِّدَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أنواع :
قَوْمٌ كَفَرُوا وَعَادُوا إِلَى مَا كانوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَان .
وَقَوْمٌ آمَنُوا بِمُسَيْلِمَةَ وَهُمْ أهل اليمَامَةِ .
وَطَائِفَةٌ مَنَعَتِ الزَّكَاةَ، وَقَالَتْ: مَا رَجَعْنَا عَنْ دِينِنَا وَلَكِنْ شَحَحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا ، وَتَأولوا قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾، فَقَالُوا : الْمَأْمُورُ بِهَذَا رَسُولُ الله لَا غيره» (الاستذكار: ج3 ص213).
إن مانعي الزكاة إنما امتنعوا عن دفع زكواتهم لأبي بكر باعتباره ليس هو الخليفة الشرعي لرسول الله، فقد بايعت هذه القبائل الإمام عليّاً (عليه السلام) في غدير خم بأمر من النبي، وكانت تعلم أن علياً هو خليفة رسول الله، لكنها فوجئت بتنصيب أبي بكر. فجاء رفضها للزكاة كحركة احتجاجية وتسجيل موقف سياسي ضد السلطة الجديدة. ومن شواهد ذلك ما وقع مع مالك بن نويرة، إذ دخل المدينة فرأى أبا بكر على منبر النبي، فاعترض عليه قائلاً: أين علي الذي أوصانا النبي بطاعته من بعده؟ فأجابه أبو بكر ودار بينهما حوار، فأمر أبو بكر حينها خالداً بن الوليد أن يخرجه من المسجد واتهمه بالردة.
وعندما بعث أبو بكر خالداً لقتال طليحة، أوصاه بقتل مالك بن نويرة خشية أن يثير انقساماً على خلافته ويجتمع حوله بنو تميم. فذهب خالد واحتال على مالك حتى قتله غدراً، ثم استولى على زوجته. وقد اعترض على فعلته بعض الصحابة الذين كانوا في الجيش، مثل عبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري، لكن خالد لم يصغ إليهم. بل إن عمر بن الخطاب نفسه أنكر ما جرى وطالب أبا بكر بالقصاص من خالد، لأنه قتل مسلماً بغير حق وتعدى على زوجته. وقد جاءت هذه القصة بشكل مفصل في تاريخ الطبري يمكن مراجعتها.
ولو حاولنا رسم خريطة للأحداث لوجدنا أن التمرد قد امتد إلى اليمن، ولم ينجُ منه سوى مكة والمدينة والطائف. وقد ورد عن بعضهم القول: «ارتدت العرب عند وفاة رسول الله ﷺ ما خلا أهل المسجدين: مكة والمدينة» (البداية والنهاية: ج6 ص312)، بينما نقل سيف بن عمر رواية أخرى قال فيها: «كفرت الأرض، وتضرمت ناراً، وارتدت العرب من كل قبيلة، خاصتها وعامتها، إلا قريشاً وثقيفاً» (تاريخ الطبري، ج3 ص242). وبذلك يتضح أن غالبية القبائل التي خضعت لرسول الله ودانت له بالولاء والطاعة تمردت بعد وفاته وأعلنت العصيان على سلطة قريش، فكانت بحق حركة كبيرة وتمرداً واسعاً اجتاح الجزيرة العربية بأسرها.
واللافت أن جميع هذه القبائل المتمردة رفعت شعاراتها القبلية في مواجهة السلطة المركزية. ولكي نفهم هذه الظاهرة، لا بد من الرجوع إلى سقيفة بني ساعدة ومعايير استحقاق الخلافة كما طرحها أصحاب السقيفة أنفسهم. فقد رفع الأنصار شعار قبيلتهم قائلين إن الأنصار أولى بالخلافة والزعامة بعد محمد. بينما احتج المهاجرون بأن قريش ـ وهي قبيلة النبي ـ أحق بوراثته وسلطانه. وكان هناك تخوف عام لدى أصحاب السقيفة من موقف بقية القبائل: هل ستقبل بالزعامة الجديدة؟ هنا استغل عمر هذا التخوف لصالح قريش قائلاً: «إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمّركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته» (تاريخ الطبري، ج2، ص455-460).
والذي حدث أن القبائل لم تقبل بزعامة قريش، ورأت أن قريشاً قد استأثرت بالفضل عليها، فأعلنت التمرد وعادت إلى أحلافها القديمة. وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق: «فلما مات رسول الله قام عيينة بن حصن في غطفان فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة. ووالله لإن نتبع نبياً من الحليفين أحب الىنا من أن نتبع نبياً من قريش. وقد مات محمد وبقي طليحة! فطابقوه على ذلك» (تاريخ دمشق لابن عساكر: ج25، ص156).
فاستجابت قبيلة أسد خزيمة كلها لدعوة طليحة بن خويلد وادعائه النبوة، وسرعان ما تسارعت قبائل أخرى للانضمام إليه. فالتحق به بنو فزارة بقيادة عيينة بن حصن، وقال: «إن نبيّ حلفائنا أسد أحبّ إلينا من نبيّ قريش». ثم تبعتهم بطون من طيء وخزاعة وغيرها، حتى غصّت بهم مناطق سميراء وبزاخة قرب حائل. وهناك أقاموا معسكراً رئيسياً، قبل أن يتخذوا معسكراً آخر في ذي القَصَّة قريباً من المدينة، حيث أرسل طليحة أخاه لقيادة الجموع والتوجه لغزو المدينة.
وقبل مهاجمة المدينة أرسل طليحة وفداً من أسد وفزارة وبني حنيفة وطيء إلى أبي بكر يطلبون منه إسقاط الزكاة عنهم، ملوّحين باحتلال المدينة إن لم يستجب. والتركيز على منع دفع الزكاة لكونها تمثل سيادة الدولة على الأطراف، فإرسال الأموال من القبائل إلى المدينة يعني الاعتراف بسلطتها، بينما الامتناع عنها يعبّر عن رفض تلك السلطة وإعلان الاستقلال. فالقبيلة التي تعيش في مضاربها مكتفية بذاتها، ولا تدفع شيئاً لجهة خارجية، لم يكن يعنيها من يحكم في المدينة ما دامت لا تدفع له. لذلك لم يكن امتناعهم بدافع البخل، بل لعدم اعترافهم بشرعية قريش. وإذا كان الإسلام قد وحّد الناس على قاعدة العقيدة متجاوزاً العصبية القبلية، فإن قريشاً في السقيفة طالبت بالخلافة على أساس الانتماء القبلي: «من ينازعنا سلطان محمد ونحن عشيرته». فكيف يُستنكر على القبائل احتجاجها القبلي ويُصوَّر خروجاً عن الدين، بينما يُقبل لقريش الاحتجاج بالمنطق نفسه؟ فإذا كان في ذلك ارتداد، فإن أول علاماته بدت في سقيفة قريش ذاتها.
والعجيب أن قريش هي التي أبعدت أمير المؤمنين وتمردت عليه أيام خلافته وحاربته في الجمل وصفين، ثم لاحقت ذريته وولده وقتلتهم تارة بالسم والغدر وتارة بالسيف كما هو حال الحسين (عليه السلام) في كربلاء. وقد قال أمير المؤمنين في ذلك: «اللهم أني أستعديك على قريش ومن أَعانهم، فإنَّهم قد قطعوا رحمي، وأَكفئوُا أنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري... فنظرتُ فإذا ليس لي رَافِدٌ، ولا دابُّ ولا مُساعِدٌ، إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيَّةِ، فأَغضيتُ على القذى، وجرعْتُ ريقي على الشَّجا، وصبرت من كظم الغيظ على أمَرَّ من العلقمِ، وآلم للقلب من وخز الشفار» (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج11 ص109).
وقال (عليه السلام): «اللهم فاجز قريشاً عني الجوازي فقد قطعت رحمي، وتظاهرت عليَّ، ودفعتني عن حقّي، وسلبتني سلطان ابن عمّي، وسلّمت ذلك إلى مَنْ ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الإسلام إلاّ أن يدعي مدعٍ ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على كل حال» (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج2 ص119).
خلاصة القول: إن ما عُرف بـ"حروب الردة" لم يكن ظاهرة دينية محضة، بل مركّباً تاريخياً تداخلت فيه ردّات عقدية محدودة مع احتجاجات سياسية واسعة على شرعية السلطة التي أفرزتها السقيفة بمعايير قبلية. فقد كان الامتناع عن الزكاة، في كثير من الحالات، موقفاً سياسياً يعكس رفض الخضوع للسلطة الجديد أكثر مما هو إنكار لفريضة دينية. غير أن السلطة أسبغت على هذه الحركات وصف الردة لتجد في ذلك مسوّغاً شرعياً لاستخدام السيف بدلاً من الحوار. والقراءة الموضوعية تضع الحدث في سياقه الواقعي: صراع على الشرعية في مجتمع ما تزال العصبية القبلية تتحكم في أوتاره، وتجربة سياسية ناشئة امتزج فيها الديني بالسياسي.