26 ربيع الثاني 1447 هـ   19 تشرين الأول 2025 مـ 2:54 مساءً كربلاء
سجل الايام
وفاة المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن سنة 676 هـ، صاحب كتاب "شرائع الإسلام".
القائمة الرئيسية

2025-09-26   124

حضور الإمام المهدي في وجدان المؤمن


الشيخ معتصم السيد أحمد
في خضم التحولات العقائدية والفكرية، يظل سؤال الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) من أكثر الأسئلة الحاحاً لدى المؤمنين الصادقين الذين يرجون الله واليوم الآخر. ليس بوصفه سؤالاً غيبياً فقط، بل باعتباره سؤالاً مصيرياً يتعلّق بجوهر الهوية الدينية، ومدى صدق الانتماء لخط الإمامة وولاية أهل البيت (عليهم السلام). والسؤال الأهم هنا: كيف نقوي ارتباطنا بالإمام المهدي؟ وما الذي يجعلنا من المقرّبين إليه حقاً؟

لفهم هذه المسألة، لا بد من استيعاب أن الولاية والإمامة ليست مجرد شعارات أو انتماءات عاطفية أو فكرية، بل هي التزام عملي شامل بالحق، ورفض دائم للباطل. فالأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا فقط رموزاً عقائدية، بل هم السراط المستقيم الذي يوصل العبد بالله سبحانه وتعالى، ويهديه إلى سواء السبيل. ولذلك، فإن الالتزام بخط أهل البيت (عليهم السلام) هو في جوهره التزام بكل ما جاء به الإسلام من مبادئ العقيدة والسلوك والعمل، وهو ما تؤكده الروايات المتواترة عنهم.

فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء».

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم».

وقال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): «وشيعة عليّ (عليه السلام) هم الذين لا يبالون في سبيل الله أوقع الموت عليهم، أو وقعوا على الموت. وشيعة عليّ (عليه السلام) هم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم، ولا يفقدهم من حيث أمرهم. وشيعة عليّ (عليه السلام) هم الذين يقتدون بعليّ في إكرام إخوانهم المؤمنين».

كل هذه الروايات تضع معياراً دقيقاً للارتباط الحقيقي بالإمام المهدي (عليه السلام): ليس الحب بالكلام، بل الورع والاجتهاد والعفة والسداد، فهي الصفات التي تجعل العبد موضع رضاء الإمام ومحبته.

ولعل من المهم التنبيه إلى أن الإمام المهدي ليس فكرة غيبية بعيدة عن الواقع، بل هو وجود حي وفاعل. إنه القلب الرحيم الذي يشعر بآلامنا، ويحزن لأوضاعنا، ويدفع الله بوجوده الشريف العذاب والبلاء، ويرد به كيد الأعداء. وجوده المبارك هو الذي حفظ خط التشيّع من الانهيار، رغم الملاحقات التاريخية التي لم تسلم منها حتى سيرة الإمام نفسه، ناهيك عن أتباعه.

تأمل في ما واجهه الشيعة من معاناة متواصلة عبر التاريخ، ثم قارن ذلك بما حدث لغيرهم من الفرق والمذاهب التي زالت واندثرت. فحين انقلب المتوكل العباسي على المعتزلة – الذين كانوا يهيمنون على القرار السياسي في عهد المأمون والمعتصم – لم يصمد فكرهم، وانقرضت مدرستهم. بينما بقي التشيّع رغم قسوة المحن، ومطارَدة الطغاة، وعداوة المذاهب، والسبب يعود – بعد لطف الله – إلى وجود الإمام الحجة (عجل الله فرجه)، وكونه الراعي الإلهي الخفي الذي لا ينسى شيعته، ولا يهمل رعايتهم.

وقد صرّح بذلك الإمام نفسه في كتابه إلى الشيخ المفيد، ومن خلاله إلى كل المؤمنين، حيث قال: «... إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جلّ جلاله، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون..».

وهذه الكلمات الكريمة تُبيّن بوضوح أن الغيبة لا تعني الغفلة، والغيب لا يعني القطيعة، بل هو لون من ألوان التدبير الإلهي في مرحلة خاصة من مراحل التاريخ. وواجب المؤمن في هذه المرحلة أن يكون على قدر المسؤولية، وأن يكون جزءاً من هذا التدبير، لا عبئاً عليه.

فما هو أفضل وسيلة إذاً لربط النفس بالإمام المهدي؟ الجواب جاء في الروايات أيضاً: صلاح الأعمال. فقد ورد أن أعمال المؤمنين تُعرض على الإمام المعصوم، وهذا يحتم على الإنسان أن لا يُسوء إمامه بما يراه من قبيح فعله، أو ضعف همته، أو خيانة التزامه. فالإمام يفرح بحسن عمل شيعته، ويحزن إذا رآهم قد انحرفوا عن الصراط.

ومع صلاح العمل، يجب أن يُظهر الإنسان محبته وتعهد ولائه، كما ورد في دعاء العهد:
 «اللهم إني أُجدّد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً».

ويعيش المؤمن حالة التذكّر الدائم والتشوّق للقاء الإمام، كما في الأدعية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام): «اللهم أرني الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة، وأكحل ناظري بنظرة مني إليه»
وفي دعاء الندبة: «وأره سيّده يا شديد القوى... هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى؟»
وفي دعاء العمري عنه (عجل الله فرجه): «اللهم إني أسألك أن تريني وليَّ أمرك ظاهراً نافذ الأمر».
وفي دعاء آخر: «اللهم أرنا وجه وليّك الميمون في حياتنا وبعد المنون».

لكن رغم أهمية الشوق والدعاء، فإن الثبات على الولاية هو محور الارتباط الحقيقي، وقد أشارت إليه رواية الإمام الباقر (عليه السلام):
«يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم. طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إن أدنى ما يكون لهم من الثواب أن ينادي بهم الباري جلَّ جلاله فيقول: عبيدي وإمائي آمنتم بسري وصدّقتم بغيبي فأبشروا بحسن الثواب مني، أي عبيدي وإمائي حقاً منكم أتقبّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وادفع عنهم البلاء، لولاكم لأنزلت عليهم عذابي».

وهذه الرواية تجعل من الثبات في عصر الغيبة معياراً خاصاً، له آثار عظيمة تتجاوز حدود الفرد، إلى المجتمع كله، بل حتى إلى الطبيعة والكون.

ومن الوسائل الأخرى التي تقوّي الارتباط بالإمام الحجة (عليه السلام) هو الدعاء له بالحفظ والنصر وتعجيل الفرج، فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في دعائه له (عجل الله فرجه): «اللهم أعزه من شر كل طاغٍ وباغٍ، ومن شر جميع خلقك، واحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، واحرسه وامنعه أن يصل إليه بسوء، واحفظ فيه رسولك وآل رسولك، وأظهر به العدل، وأيّده بالنصر».

ولا يخفى أن الأدعية والزيارات والمستحبات التي وردت عن المعصومين، إنما جاءت لترسيخ صلة دائمة ووجدانية وعقلية مع الإمام الغائب، لتبقى القضية حية نابضة، لا تغيب عن وعي الأمة.

خاتمة
إن الارتباط بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) ليس شعوراً وجدانياً عابراً، ولا مجرد دعاء نردّده، بل هو التزام دائم بسلوك أهل البيت (عليهم السلام)، وسير في خطّهم، وثبات على طريقتهم، ووعي بأننا نعيش في عهد إمام حيّ يرى أعمالنا ويهتم لأحوالنا. وكلّما صلح حالنا، اشتدّت علاقتنا به، وكلّما فسدت أعمالنا، ازددنا بُعداً عنه.

فمن أراد أن يكون من أنصار المهدي حقاً، فليكن كما وصفه الأئمة: ورعاً، مجتهداً، عفيفاً، صادقاً، مخلصاً، ومتشوقاً لنصرة الحق مهما كلف الأمر. حينها، يكون الارتباط بالإمام ليس أمنية، بل حقيقة نعيشها في كل لحظة.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م