
2025-10-11 36

أوهام الخلاص وفردوس الدم: الجذور اللاهوتية للتحالف الأمريكي–الإسرائيلي
الشيخ مصطفى الهجري
في سلسة الأفلام الكوميدية "أوستن
باورز" هناك شخصيتان شريرتان: الدكتور إيفل وهو الخصم الرئيس،
وتابعه وشبيهه الصغير "ميني ـ مي"، وهم بحق يمثلان في زماننا أمريكا
ودولة الكيان الغاصب، فتراهما يتشابهان في عدة نواح، الأصول
الفكرية، والسلوك مع الآخرين، طبيعة النشاطات الاجتماعية
والاقتصادية.
يبدأ الأمر عندما أستقل
البيوريتانيون (المتطهرون) سفنهم وهاجروا من أوربا الى العالم
الجديد وأرض الميعاد (أمريكا) هرباً من أوضاع أوربا وقتئذ.
والبيوريتانيون لفيف من البروتستانت المتطرفين الذين وجدوا من
العسير عليهم البقاء في بلدانهم تحت وطأ وحكم الكنيسة البروتستانتية
الانكليزية والتي يتهمونها بعدم ابتعادها الكافي عن نمط الكنيسة
الكاثوليكية في العبادة بما فيه من طقوس وتماثيل وزخارف، وطالبوا
بتطهير العبادة المسيحية من كل هذه العناصر الدخيلة التي لم يأت لها
ذكر في العهد القديم او الجديد.
فالسعي لتأسيس دولة موافقة للكتاب
المقدس هو من حدا بهم الى الهجرة، لذا حاولوا تشييد مدينتهم الفاضلة
أو "صهيون الجديدة كما كانوا يسمونها" بحسب طريقة المسيحيين
الأوائل.
ولا يزال أثر هذا التصور السلفي
واضحاً على الوجدان الامريكي حتى القرن التاسع عشر، ويظهر في
الأعمال الأدبية والفنية الأمريكية مثل قصائد أميلي ديكنسون واشعار
والت وايتمان الذي كان يطلب من المهاجرين الأوربيين والمواطنين
الأمريكيين الجدد أن يلقوا من كاهلهم عبئ الحضارة الأوربية ليبدأوا
من جديد من نقطة الصفر في الأرض العذراء الجديدة، وفي الفردوس
الأرضي الأمريكي.
وهذا التصور الفردوسي لأمريكا ليس
قاصراً على الأدباء والشعراء وحدهم، بل أنه فكرة لها فعاليتها في
الحياة اليومية الأمريكية، ففي برامج التلفزيون الأمريكي كثيراً ما
نجد أن الشخصيات الشريرة تحمل أسماً أوربياً واضحاً، مثل فابريزي أو
بلجارد، أما الشخصيات البريئة الطيبة فهي عادة تحمل اسماً
أنجلوساكسونياً مثل جون او سميث.
هذه المنطلقات والخلفية الفكرية
السلفية عينها كانت عند اليهود المؤسسين لدولة الكيان الغاصب، فهم
ايضاً يرفضون فكرة العيش في بلدان مختلفة، وهو ما يعرف في أدبياتهم
بالدياسبورا (الشتات)، فالصهاينة يرون أن الوجود اليهودي في اي
حضارة غير يهودية ظاهرة شاذة وعلامة على المرض الروحي، ولذلك فهم
ايضاً يعودون الى الزمن السحيق، يوم كان اليهود يعيشون ككيان قومي
مستقل لم تدخل عليه الشوائب التاريخية غير اليهودية بعد.
ولهذا تجد أن اغلب اليهود
المهاجرين الى فلسطين غيروا اسمائهم الأصلية الى اسماء عبرانية
قديمة.
ان فكرة العودة الى حياة الأسلاف
النقية مما علق بها من أخلاق وسلوكيات دخيلة هي المسيطرة على
الوجدانين الأمريكي واليهودي. ولعل هذا ما يفسر نظرة كثير من
الصهاينة والاسرائيليين الى دولة اسرائيل على انها كيان ميتافيزيقي
يحقق نبوءات العهد القديم، كما قال أحد محرري النيويورك تايمز: «أن
على الانسان ان يستوعب سفر إشعيا استيعاباً تاماً ليفهم سياسة
اسرائيل الخارجية! فمفهوم (ارتس اسرائيل) التوسعي او (اسرائيل
العظمى) التي تضم الأرض الواقعة بين نهر مصر والفرات هو مفهوم ديني
لا علاقة له بالزمان او المكان».
وهو عين رؤية البيوريتانيين
لمدينتهم الفاضلة في أمريكا، فهم كانوا مقتنعين تمام الاقتناع أنهم
هاجروا من أوربا الى أمريكا لينشؤا "مدينة على التل" تنظر اليها كل
الأمم، وتحاكي أفعالها وبذا يعم الخير ويأتي الخلاص. وكان المفهوم
البيوريتاني مفهوماً دينياً ضيقاً يرى في كل شيء علامة مرسلة من
الله تعالى يستشهد بها على شيء ما.
وكما هو الحال مع الاسرائيليين نجد
أن البيوريتانيين استخدموا هذه العلامات "الدينية" لتبرير كل
أعمالهم العدوانية من إبادة للهنود الحمر واحتلال لأراضي الغير. وقد
استمر هذا التزاوج بين الأحلام الدينية والدوافع القومية التوسعية
حتى القرن التاسع عشر، فوالت ويتمان كان يؤمن بالفتوحات الأمريكية
في المكسيك وغيرها بنفس ايمان المسيحي بـ"السر الإلهي" على حد
تعبيره، كما كان يحلم بأمريكا العظمى التي تمتد من كندا الى كوبا
ومن القطب الى خط الاستواء، وكان يسمي حلمه التوسعي بـ"برؤيا عذبة"
أما أوسليفان المفكر الأمريكي فكان يسمي هذا الاحتلال لأراضي الغير
بـ"القدر الجلي". بل حتى في العقود الأخيرة لا تعدم أن تجد من
يستخدم هذه النغمة الدينية التبريرية مثل الكاردينال سيلمان الذي
كان يسمي الجنود الأمريكيين في فيتنام بـ"جنود المسيح". او مثل
الجنرال الأمريكي الذي دمر قرية فيتنامية كاملة حتى ينقذها!!
ان هذا الجنرال مثل الجنرال
الاسرائيلي عنده احساس بأنه صاحب رسالة خاصة وانه قد "اختير"
لتنفيذها، ولذلك فهو يقوم بأبشع الجرائم دون أن يهتز له جفن.
وكما أن البيوريتانيين عندما
احتلوا الأراضي الأمريكية انتشروا فيها عن طريق أنشاء مستعمرات ذات
طابع زراعي عسكري، كذلك فعل المستوطنون الصهاينة فقد احتلوا فلسطين
بنفس الطريقة.
كما أن العقلية التي تحكم
الوجدانيين الأمريكي والصهيوني واحدة وهي تفضيل العمل على الفكر
والاعتبارات الاخلاقية، وهي ما يعبر عنها بـ"عقلية الكابوي" الشخصية
التي يعشق مشاهدتها الصهاينة في الأفلام الامريكية. فهو ينتصر لأنه
يطلق مسدسه في الوقت المناسب وقبل خصمه بثواني قليلة، ثم يمسح فوهة
مسدسة وهو يقبل عشيقته، يقول أحد أبطال القصص الاسرائيلية: «انا
أذبح خصومي لا كروسي يهودي او فرنسي يهودي بل كيهودي يهودي، هذا هو
مناي».
ولعل نقطة التشابه الأساسية بين
الوجدانيين الأمريكي والصهيوني الاسرائيلي هو العنف العنصري
ففردوسهم الأرضي لا يصبح حقيقة إلا بعد إبادة الهنود الحمر
والفلسطينيين.
وليس من قبيل الصدفة أن شعار "أرض
بلا شعب وشعب بلا أرض" قد تبناه كل من البيوريتانيون والصهاينة،
وليس من قبيل المصادفة ايضا ان المُجتَمَعين من أكثر المجتمعات
عنصرية.
ومما له دلالته وطرافته ايضاً، أن
مؤسسي الجمهورية الامريكية بعد إعلان الاستقلال فكروا في جعل اللغة
العبرية هي لغة الدولة الرسمية، باعتبار ان الدولة الوليدة هي دولة
صهيون الجديدة. ولكن لاعتبارات معينة عدلوا عن ذلك.
وقد يقول البعض ان مثل هذه
المقارنة بين أمريكا واسرائيل طريفة ولكنها لا يمكن أن تؤخذ على
محمل الجد، وذلك بسبب الفروق الاقتصادية والجغرافية الواضحة بين
البلدين. وفي هذا الكلام شيء من الصدق، ولكن في نفس الوقت يجب ان لا
نهمل الدروس العامة التي يمكن أن نستخلصها من دراستنا لتطور الحضارة
الامريكية، فمن المعروف ان هذه الحضارة لا تزال متأثرة الى حد ما
بالأوهام والأساطير البيوريتانية على الرغم من مرور عدة قرون وعلى
الرغم من التحولات الكبيرة والعديدة التي طرأت على بيئة المجتمع
الاقتصادية.
وهناك ما يشبه الاجماع بين مؤرخي
الحضارة الأمريكية، ومن بينهم عميدهم بيري ميللر، على ان دراسة
الحضارة الامريكية دون استيعاب الوجدان البيوريتاني أمر غير مجد ولا
طائل من ورائه لأنه لا يمكن الإحاطة احاطة كاملة بجوهر هذه الحضارة
وروحها دون الرجوع الى الإطار الأول الذي صاغه
البيوريتانيون.
إذا كان الأمر كذلك يمكن ان نخلص
الى: أن الأفكار الأسطورية الزائفة لها تأثير عميق على الوجدان
الإنساني وعلى سلوك البشر، وان هذه الأفكار رغم زيفها قد تعمر
طويلاً وقد تأخذ أشكالاً عديدة مما يدعونا الى عدم التفاؤل بخصوص
الشعب اليهودي فهو أسير وضحية الأساطير الاسرائيلية. وهو سيبقى
اسيراً هذه الاساطير.
ولذا يجب ان لا نتوقع أن انتصاراً
او اثنين سيزلزلان كيانه، بل ينبغي علينا أن نتوقع خوض حرب طويلة
ومريرة عسكرية او حضارية وذلك قبل أن يتحرر الانسان الاسرائيلي من
أوهامه الصهيونية الطوباوية.
وعلى مستوى آخر يجب ان نضع في
اعتباراتنا انه من اليسير على الشعب الامريكي فهم العقلية
الاسرائيلية والتعاطف مع الشعب الاسرائيلي وقيمه اللاخالاقية من
عنصرية وعنف نظراً للتشابه بين وجدان الشعبين.
الأكثر قراءة
35561
19725