23 ربيع الثاني 1447 هـ   16 تشرين الأول 2025 مـ 1:03 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-10-14   31

هل الله مسؤول عن الشرور أم الإنسان؟


الشيخ معتصم السيد أحمد
يُعَدّ سؤال الشرّ من أقدم الأسئلة الفلسفية التي حيّرت العقول وأثارت الجدل بين المؤمنين والملحدين على حدٍّ سواء، إذ يتساءل بعض المعترضين: إذا كان الله خالقَ كلِّ شيء، محبّاً لخلقه، قادراً على كل شيء، فلماذا يوجد في هذا العالم ألمٌ ومرضٌ وفقرٌ وطغيان؟ ولماذا يُقتل الأبرياء وتُسفك الدماء دون أن يتدخل الإله لردع المعتدين أو رفع المعاناة؟ وإذا كان الله كليّ القدرة وكليّ الرحمة، فكيف يسمح بوجود الزلازل والبراكين والأعاصير، ويترك الأطفال يموتون جوعاً أو مرضاً؟ ومن هنا يتوهم البعض أن وجود الشر في العالم يتنافى مع وجود إلهٍ قادرٍ رحيم، فينتهي إلى نتيجة باطلة مفادها أن الإله إمّا غير قادر، أو غير رحيم، أو غير موجود.

غير أن هذا الاعتراض يقوم على مغالطةٍ فكرية ومنهجية، لأنه يفترض أن كل ما يحدث في الكون ناتج عن إرادة الله المباشرة، ويغفل أن كثيراً من الشرور التي يشهدها الإنسان هي من صنعه هو، لا من فعل الطبيعة ولا من مشيئة الله المباشرة. فالحروب المدمرة، والأنظمة الجائرة، وجرائم القتل، والظلم، والفساد، كلها ثمار قرارات بشرية خاطئة نابعة من الأنانية والطمع وسوء استخدام الحرية. فالله سبحانه لم يخلق الإنسان شريراً، بل أودع فيه قابلية الخير والشر معاً، وابتلاه بحرية الاختيار، ليُجازى على ما يختار. قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾، فكانت أفعاله هي التي تحدّد مصيره لا إرادة الله الجبرية.

إنّ الله تعالى لم يشأ الظلم ولا العدوان، لكنه شاء أن يكون الإنسان مكلَّفاً ومسؤولاً عن أفعاله، حتى يقوم العدل على الاستحقاق، لا على الإلزام. فوجود الشرور الناتجة عن اختيارات البشر لا يناقض عدل الله، بل يثبت أن الإنسان كائن حرٌّ لا يُجبر على الخير أو الشر، وأنه خُلق ليكون خليفةً في الأرض، مسؤولا عن إعمارها أو إفسادها. ومن ثم فإن تحميل الله مسؤولية ما يفعله الإنسان من شرٍّ ظلمٌ مزدوج: ظلمٌ للخالق الذي أكرم الإنسان بالعقل والحرية، وظلمٌ للإنسان الذي تهرّب من مسؤوليته.

وإذا نظرنا بتأمل أعمق إلى ما يُسمّى بـ"الشرور الطبيعية" كالزلازل والأعاصير والأوبئة، فإننا نجد أن وصفها بالشرّ إنما هو توصيفٌ نسبيّ من زاوية نظر الإنسان المحدودة، لا من زاوية النظام الكوني الشامل. فهذه الظواهر جزء من البنية الدقيقة التي يقوم عليها توازن الأرض واستمرار الحياة فيها. فالزلازل – على قسوتها – تؤدي دوراً حيوياً في تجديد القشرة الأرضية وتكوين الجبال وتوزيع المعادن وتشكيل التضاريس، وهي التي تحفظ حركة باطن الأرض من الركود الذي لو دام لتحولت الأرض إلى كتلة خامدة لا حياة فيها. وكذلك البراكين التي يراها الناس نذير دمار، هي التي أخرجت الغازات والمياه من باطن الأرض أول مرة، وأسهمت في تكوين الغلاف الجوي الذي يحفظ الحياة. وحتى العواصف والأعاصير تؤدي وظيفة في تنقية الغلاف الجوي، وإعادة توزيع الحرارة والرطوبة بين القارات والمحيطات.

إذن فهذه الأحداث الكونية ليست شرّاً في ذاتها، بل هي جزء من نظام متكامل يقوم على الأسباب والمسبّبات، وكل خلل في هذا النظام قد يؤدي إلى فسادٍ أعظم. إنها تبدو شرّاً من منظور الإنسان الفرد، لكنها خيرٌ في ميزان الكون العام. فكما أن المطر الذي يُحيي الأرض يمكن أن يدمّر زرعاً آخر، كذلك تتبدل أوجه الخير والشر تبعاً للزاوية التي يُنظر منها، وليس في فعل الله ظلمٌ أو عبث. ولو عطّل الله هذه السنن في كل مرة يتأذى فيها أحد، لتعطّل نظام العالم بأسره، ولما استقرت الحياة ولا استمرت سنة الابتلاء.

ثم إن ما نسميه بالشرّ الطبيعي ليس فقط ابتلاءً للمتضررين، بل هو فرصةٌ لامتحان الإنسانية كلها. فهو يكشف عمق الرحمة والتكافل بين الناس، ويدفع العقول إلى الاكتشاف والابتكار، ويُخرج من رحم الألم طاقاتٍ عظيمة في العلم والعمل. فلولا الأوبئة ما تقدّم الطب، ولولا الجفاف ما وُجدت وسائل الريّ الحديثة، ولولا الزلازل ما طوّر الإنسان هندسة البناء المقاومة لها. فالمحنة في حقيقتها منحةٌ للوعي الإنساني، توقظ فيه قدرته على التكيّف والصبر والإبداع، وتعلّمه أن يكون فاعلاً في مواجهة الطبيعة لا مجرد ضحية لها.

وهكذا يتبيّن أن ما نراه شرّاً في لحظته قد يكون خيراً في منظوره الأبعد، لأن الكون كلّه يسير وفق سننٍ محكمة أودعها الله لحكمةٍ لا تنفك عن العدل. فالله لم يخلق الكون ليكون ساكناً خالياً من الحركة والاختلاف، بل جعله ميداناً للتكامل، تتولد من تقلباته دروس التجربة والنمو والابتلاء، وبه تتحقق الغاية الكبرى من الخلق: أن يُظهر الإنسان فضيلته، ويثبت في وجه المصاعب صدقه في الإيمان.

أما الشرور الاجتماعية كالظلم والفقر والجوع، فشواهدها الصارخة تؤكد أن الإنسان هو صانعها الأول. فالله هيّأ الأرض لتكفي أضعاف عدد سكانها الحاليين، وجعل فيها من الخيرات والموارد ما يغني الجميع، لكن الطغيان والاحتكار وسوء التوزيع هي التي جعلت ملايين البشر يعانون الحرمان. فكم من أطنان الطعام تُلقى يومياً في المهملات بينما يموت آخرون جوعاً، وكم من أراضٍ خصبة تُترك بائرة أو تُحتكر لفئةٍ قليلة! فمن الظلم إذن أن نحمّل الله تبعات فساد البشر، أو أن نطالبه بإصلاح ما أفسدوه وهم يملكون القدرة على الإصلاح.

لقد علّمنا التاريخ أن الفقر والتخلف ليسا قدراً حتمياً، وإنما نتيجة حتمية للكسل والتواكل وسوء الإدارة. فدولٌ مثل اليابان وسويسرا وهولندا لم ترث ثرواتٍ طبيعية، ولم تُعطَ أرضاً خصبة أو مناخاً مثالياً، لكنها بالتخطيط والعمل والإبداع تحولت إلى قوى اقتصادية عالمية. وهذا يؤكد أن الله منح الإنسان الأدوات اللازمة للنهوض، وترك له حرية استخدامها، فمن استثمرها تقدم، ومن عطّلها تراجع، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

إنّ مفهوم الرحمة الإلهية لا يعني أن الله يقوم مقام الإنسان فيما كُلِّف به من مسؤولية، ولا أنه يُعطّل قوانين الكون لإرضاء رغبات الناس أو منع نتائج أفعالهم. بل رحمته الحقيقية أنه هيّأ للإنسان أسباب الفعل والإبداع، ومنحه العقل والإرادة والقدرة على الاختيار، وسخّر له ما في السماوات والأرض ليعمّرها ويستخرج خيراتها. فالمسؤولية الكبرى تقع على عاتق الإنسان نفسه: أن يوظف هذه النعم في طريق الخير والبناء، لا أن يجعلها وسيلةً للظلم والفساد، وأن يفهم أن الكمال لا يُمنح من الخارج بل يُكتسب بالسعي والجد والعمل.

والإيمان بالله لا يلغي التفكير، بل يوجّه العقل إلى قراءة سنن الله في الوجود على حقيقتها، ليدرك أن ما يراه من تقلبات وظروفٍ مؤلمة ليس عبثاً، بل جزءٌ من نظامٍ متكامل يتيح للإنسان أن يختار موقفه الحرّ بين الصبر والجزع، بين البناء والهدم. فمن يتخذ من الشر ذريعةً لإنكار وجود الله، يغفل عن أن وجود التحديات هو ما يمنح للحياة معناها الأخلاقي، لأن الخير لا يُعرف إلا بوجود ما يُقابله، ولأن الإيمان لا يتجلى إلا حين يُمتحن. فالله لا يُريد بالابتلاء تعذيب عباده، وإنما يريد أن يُظهر فيهم طاقات الصبر والرحمة والعدل، ويرفع المخلصين منهم بدرجاتهم، ويقيم الحجة على من أعرض عن مسؤوليته واختار طريق الشر بإرادته. وهكذا تتحول لحظات الشدة والألم إلى ميدانٍ لاختبار إنسانية الإنسان، ومعبرٍ نحو فهمٍ أعمق لرحمة الله وعدله وحكمته في نظام الحياة. 

الخلاصة:
ليس وجود الشرّ في العالم دليلاً على غياب الله، بل على حضور إرادته الحكيمة التي شاءت أن يُبتلى الإنسان بالحرية والمسؤولية. فالله لا يُسأل عمّا يفعل، لأنه لا يفعل عبثاً، والإنسان هو الذي يُسأل عمّا يختار ويقترف. ولو أراد الله أن يمنع كل شر، لألغى بذلك الحرية والاختيار، ولما بقي معنى للثواب والعقاب. فوجود الشر ليس نقصاً في قدرة الله، بل دليل على تمام عدله، لأن به تُعرف قيمة الخير، وبه تُختبر النفوس، وبه يتجلى الإنسان كائناً عاقلاً مسؤولاً، مكلَّفاً بأن يصنع الخير في عالمٍ جعله الله ميداناً للامتحان لا جنةً للنعيم.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م