
2025-10-21 124

الاتزان النفسي... فن التعامل الهادئ مع العواصف
الشيخ معتصم السيد أحمد
قد يمر الإنسان في حياته بلحظات
يفقد فيها توازنه أمام الصدمات والمشاكل، فيتحول من كائن عاقل متزن
إلى شخص مرتبك تسيّره ردّات الفعل لا الفكر، والعاطفة لا البصيرة.
وكثيراً ما تكون هذه اللحظات الفاصلة في حياة الإنسان هي التي تكشف
عمق بنائه الداخلي ومدى قدرته على ضبط نفسه أمام التحديات. فالاتزان
النفسي ليس صفة يولد بها الإنسان، بل هو ثمرة وعيٍ عميق وتربية
مستمرة وتجارب متراكمة، تُمكّنه من الوقوف بثبات حين تهتزّ الأرض من
تحته.
كلّ المدارس الفكرية والتربوية،
على اختلافها، التقت عند هدفٍ واحدٍ هو إيصال الإنسان إلى هذه
الحالة من السكينة والاتزان. فالعلماء والمرشدون والأنبياء جميعاً
دعوا الإنسان إلى معرفة نفسه قبل كل شيء، لأن الوعي بالذات هو مفتاح
التوازن. فالإنسان إذا جهل نفسه تاه في مواجهة الواقع، وإذا عرفها
ووعى حدودها وقدراتها، صار قادراً على التعامل مع مشكلاته بعقل هادئ
لا ينهار عند أول عثرة، فاستقامة الحياة الإنسانية تبدأ من الداخل،
من لحظةٍ يقرر فيها المرء أن يكون سيد نفسه لا أسير انفعالاته، وأن
يتعامل مع مشاكله على أنها جزء من مسيرة النمو لا علامة على
الفشل.
الإنسان المتزن لا يهرب من مشاكله،
ولا يتجاهلها، بل يفهمها ويواجهها بمنطق الحكمة. إنه يدرك أن
الصعوبات ليست بالضرورة نِقماً، بل محفزات تدفع إلى اكتشاف القدرات
الكامنة وصقل المهارات الخفية. فالحياة في جوهرها مدرسة، ومشاكلها
هي دروسها الصعبة التي لا يتقنها إلا من تعلّم الصبر، وتعمّق في فهم
فلسفة الوجود. ولذا قيل إن الفرق بين الإنسان العاقل والمضطرب ليس
في عدد الأزمات التي يواجهها، بل في طريقته في قراءتها. الأول يرى
في كل أزمة باباً للارتقاء، والثاني يرى فيها نهاية الطريق.
ولكي يصل الإنسان إلى هذه المرحلة
من الهدوء الداخلي، لا بد له أن يبني توازنه على أسس متكاملة تتفاعل
فيما بينها. فالجانب الجسدي مثلاً لا ينفصل عن الجانب النفسي، إذ
ثبت علمياً أن الصحة الجيدة تُسهم في استقرار المزاج والقدرة على
التفكير الإيجابي. ومن هنا جاءت الحكمة القديمة: "العقل السليم في
الجسم السليم". فكلما كان الجسد سليماً بعيداً عن المنغصات والآلام
المزمنة، كان الإنسان أكثر قدرة على مواجهة أعباء الحياة من دون أن
يفقد توازنه. فالمريض الذي يتألم جسدياً يضيق صدره، وتتضاءل قدرته
على الصبر، بينما السليم يكون أكثر مرونة واتزاناً أمام
الأزمات.
وفي المقابل، فإن الجانب المهني
والعملي من حياة الإنسان له أثر عميق في استقراره النفسي. فالعطالة
والبطالة من أشدّ ما يهزّ كيان الإنسان ويجعله يشعر بعدم الجدوى،
لأن العمل ليس مجرد وسيلة للرزق، بل هو تعبير عن الذات وتحقيق
للوجود. من يجد نفسه في عملٍ يحبه ويؤمن بقيمته يشعر بأنه فاعل
ومؤثر، فيتولد لديه إحساس بالرضا ينعكس على مزاجه وسلوكه. أما من
يعيش بلا هدف أو بلا عمل فيغرق في القلق والسخط، ويصبح عرضة
للاضطراب النفسي.
ثم تأتي الأسرة باعتبارها الحضن
الأول لتوازن الإنسان. فالاستقرار الأسري ليس مجرد راحة عاطفية، بل
هو الركيزة الأساسية للصحة النفسية. فكل اضطراب في العلاقات
العائلية يترك بصمته على الحالة الذهنية للإنسان، والعكس صحيح
أيضاً، إذ يصعب أن يُصلح المرء أسرته إذا كان من الداخل مضطرباً.
لذلك كان التوازن الأسري والتوازن النفسي وجهين لعملة واحدة، لا
يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
ومن أبرز مظاهر الوعي والاتزان أن
يعرف الإنسان متى يبتعد عن مصادر التوتر والضغط، فلا يزجّ بنفسه في
نزاعات لا تخصه، ولا يجعل نفسه أسيراً للأخبار السلبية أو الخلافات
الاجتماعية التي لا طائل منها. فالبعض يرهق نفسه بتتبع كل ما يجري
حوله من صراعات وأزمات، حتى تتآكل أعصابه من دون أن يغيّر شيئاً في
الواقع. بينما الإنسان المتزن يعي حدوده، فيبتعد عن الأجواء التي
تستنزف طاقته، ويتجه إلى ما ينفعه ويريّح قلبه.
ويحتاج الاتزان أيضاً إلى غذاء
فكري وثقافي مستمر، لأن الجهل يُضخّم المشكلات في ذهن الإنسان،
ويجعله يرى في كل صعوبة نهاية العالم. أما الثقافة فهي التي توسّع
الأفق وتعلّم المرء أن للحياة وجوهاً متعددة، وأن الحلول كثيرة مهما
تعقدت الظروف. فكل من ينمّي مهاراته الحياتية ويقرأ تجارب الآخرين
ويتعلم من أخطائه يصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات من دون
انفعال. والمعرفة تمنح الإنسان رؤية متزنة للأشياء، لأن الفهم
العميق يقلل الخوف، ويحوّل الغموض إلى بصيرة.
غير أن كل هذه الجوانب المادية
والفكرية تحتاج إلى شحنة روحية تحفظ توازنها. فالثقة بالله تعالى هي
الجدار الأخير الذي يحمي النفس من الانهيار. من يتصل بخالقه اتصالاً
صادقاً يجد في قلبه طمأنينة لا يمكن أن يمنحها شيء آخر. فالإيمان لا
يلغي الألم، لكنه يمنح معنى للألم، ويحوّل المعاناة إلى طاقة على
الصبر والعمل. الإنسان الذي يؤمن أن وراء كل محنة حكمة، لا ينهار
مهما كانت الظروف، لأنه يرى في كل بلاء امتحاناً لا انتقاماً، وفي
كل تأخير لطفاً لا حرماناً.
الاتزان النفسي، في جوهره، هو ثمرة
التوازن بين الجسد والعقل والروح. فمن يغذي جسده بالراحة، وعقله
بالمعرفة، وروحه بالذكر والعبادة، يعيش في حالة انسجام تجعله قادراً
على مواجهة الحياة بأعصاب هادئة وقلب راضٍ. والعبادة هنا ليست
طقوساً شكلية، بل لحظة اتصال عميق بالله تعالى، يتخفف فيها الإنسان
من ضوضاء الدنيا ويستعيد صفاءه الداخلي. فحين يضع المؤمن جبينه على
الأرض في السجود، كأنه يعيد ترتيب فوضى روحه، فيخرج من الصلاة أكثر
استقراراً وسلاماً.
وليس المقصود بالاتزان أن يعيش
الإنسان بلا مشاعر أو بلا انفعالات، بل أن يكون قادراً على توجيهها
في الاتجاه الصحيح. فالحزن مشروع، والغضب طبيعي، والفرح مطلوب، لكن
غير المتزن هو من يترك هذه المشاعر تقوده بدل أن يقودها. والاتزان
يعني أن يظلّ العقل حاضراً حين تهبّ العواطف، وأن يبقى الإيمان
منارةً وسط ظلام الاضطراب.
إن الوصول إلى هذه الدرجة من الوعي
ليس أمراً سريعاً، بل هو رحلة طويلة من التربية الذاتية والمجاهدة
المستمرة. فكل إنسان، مهما بلغت ثقته بنفسه، معرّض للاهتزاز، ولكن
الفرق بين المتزن وغيره أن الأول يعود بسرعة إلى مركزه الداخلي،
بينما الثاني يضيع في دوامة الانفعالات. ومن يتأمل في سيرة الأنبياء
والأولياء يجد أن سرّ ثباتهم لم يكن في قوتهم الجسدية، بل في عمق
يقينهم بالله، وفي وضوح رؤيتهم لمعنى الحياة.
وهكذا، فإن الاتزان النفسي لا
يُكتسب من كتاب واحد أو وصفة محددة، بل هو ثمرة وعيٍ شاملٍ بالحياة
وبالنفس معاً. وكل إنسان يستطيع أن يبدأ من نفسه، فيراجع أفكاره،
ويصلح علاقاته، ويهتم بصحته، ويغذي روحه بالإيمان. وعندما يبلغ هذه
المرحلة سيجد أن المشاكل لم تنتهِ، لكنها لم تعد تُربكه كما كانت من
قبل، لأن في داخله ميزاناً دقيقاً يحفظه من الانهيار، ويجعله قادراً
على السير بثقة وسط العواصف.
إن الإنسان المتزن لا يعيش حياة
خالية من الهموم، لكنه يعيش حياةً يملك فيها مفاتيح التوازن، فلا
يسقط أمام المحن، ولا يغتر بالنجاح. إنه يعيش الحياة كما هي، ويستمد
طمأنينته من إيمانه بأن لكل شيء في هذا الوجود حكمة، ولكل شدة
فرجاً، وأن الاتزان الحقيقي هو أن تظل روحك ثابتة وإن اضطرب كل شيء
من حولك.
الأكثر قراءة
36314
19806


