7 جمادي الثاني 1447 هـ   28 تشرين الثاني 2025 مـ 11:30 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-11-18   106

إذا ظهر الحقّ سقطت الأعذار: درسٌ من قوم صالح


الشيخ مصطفى الهجري

في تاريخ البشر تتكرّر ظاهرةٌ خطيرة كانت سبب هلاك أممٍ ونجاة أخرى: معاندة الحقّ بعد ظهوره. وليس شيءٌ أفسد للقلوب ولا أشد تدميراً للمجتمعات من أن يعرف الناس الحقّ ثم يعرضوا عنه كبراً أو عناداً، كما قال تعالى:(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

 

ولم يضرب القرآن مثلاً أوضح على خطورة هذا المسلك من قصة ثمود وقوم صالح عليه السلام؛ فقد كانت حكايتهم شاهداً على أن العناد بعد وضوح الحجة هو البوابة الكبرى للعذاب والهلاك.

 

أرسل الله تعالى صالحاً إلى ثمود فجاءهم بدعوته بالحكمة والبرهان، لكنهم عاندوا وطلبوا آيةً عجيبة دالّة على صدقه. وهنا تروي لنا الأحاديث قصةً تكشف عمق عنادهم، ومن أوسعها تفصيلاً ما جاء في الكافي عن أبي بصير قال:

 «فبعث الله إليهم صالحاً فلم يجيبوه وعتوا عليه، وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا ثم إنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض فقالوا: اعقروا هذه الناقة ثم قالوا: من الذي يلي قتلها ونجعل له جعلاً؟ فجاءهم رجل فقتلها وأقبل فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، وأقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته واقتسموا لحمها

فأتاهم صالح فقال: إن تبتم ورجعتم واستغفرتم غفرت لكم فقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا

فقال: تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني محمرة، واليوم الثالث مسودة فلما كان اليوم الثالث أصبحوا ووجوههم مسودة».

 

هذه الرواية تكشف أن الجريمة لم تكن مجرّد قتل ناقة، بل كانت اعتداءً على الآية نفسها، على الدليل الذي أقامه الله بين أيديهم، وعلى الحجّة التي تطالبهم بالاستجابة، فكان العناد هنا مواجهةً مع الحقّ نفسه.

 

قد يتساءل البعض: لماذا استحقّ قوم صالح هذا العذاب العظيم؟

والجواب: لأنهم لم يقعوا في ذنبٍ عادي، بل في معاندة الحقّ بعد ظهوره يقيناً. فقد رأوا الناقة تخرج أمام أعينهم من الصخرة، ثم عاشوا معها، وشاهدوا ما جعلها آيةً واضحة في رعاية الله وقدرته، ومع ذلك اجتمعوا على عقرها، ثم قالوا لصالح متحدّين: «ائتنا بما تعدنا».

 

وهكذا تحوّل العناد إلى تمرّدٍ جماعي، وإصرارٍ على الكفر، ورفضٍ للتوبة مع أنّ النبيّ دعاهم إليها صراحة. وفي مثل هذه الحالة تجري السنّة الإلهية التي لا تتبدّل، فيُرفع الستر بين الإنسان وبين العذاب.

 

ليست قصة ثمود درساً تاريخياً فحسب، بل تحذيراً مستمرّاً، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله قال: «كلّ ما كان في الأمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأمة مثله، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة».

 

كما قال مفسّراً قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ): «لتركبنّ سنّة من كان قبلكم حتى لو دخل من قبلكم جحر ضبّ لدخلتموه».

 

معنى ذلك أن الطريق نفسه يعاد: إذا وُجد العناد، وظهرت الحجّة، وأصرّ الناس على مخالفتها، نزلت بهم الفتن والعقوبات، كما قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ).

 

إنّ أخطر ما في معاندة الحقّ أنها تُغلق أبواب الهداية على العبد. فالمخطئ قد يُصلحه الندم، أما المعاند فلا يعرف الندم أصلاً، لأن كبرياءه تمنعه من الاعتراف، فيستمر في الباطل وهو يعلم أنه باطل.

 

وما أكثر الأمثلة في عصرنا

كم من إنسان تظهر له البينة، ويُبيّن له أهل العلم الحجة، ثم يعاند ويجادل ويُصرّ، لا طلباً للحق، بل حفاظاً على رأي، أو هروباً من مسؤولية، أو اتّباعاً للهوى.

 

هذا النموذج كما وصفه القرآن والسنة هو امتداد لأولئك الذين قالوا لصالح: «لو أهلكنا جميعاً ما سمعنا قول صالح».

وهو النموذج الذي تتوجّه إليه السنن الإلهية نفسها إذا تمادى في عناده، لأن الله تعالى لا يغيّر سنّته ولا يحابي أحداً.

 

إن قصة ثمود ليست حكاية ناقة، بل حكاية عنادٍ قتلتْ أصحابَه.

وهي دعوة لكلّ إنسان أن يراجع قلبه:

هل إذا ظهر له الحقّ يخضع له أم يعرض عنه؟

هل يقوده الدليل أم يقوده هواه؟

 

فالسلامة كلّها في الانقياد للحقّ إذا تجلّى، والهلاك كلّه في معاندته، كما قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ).

 

وما جرى لثمود سيبقى شاهداً على أن العناد أخطر أبواب الهلاك، وأنّ التواضع للحقّ هو أوّل طريق النجاة.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م