
2025-11-27 19

مقاربات فهم الدين: تساؤل في المنهج والرؤية
الشيخ معتصم السيد أحمد
لا يمكن أن نفهم الدين الإسلامي
فهماً كاملاً إذا قُدّم إلينا بوصفه مجموعة من العقائد التي يجب
الإذعان لها، أو الأحكام التي ينبغي تطبيقها، أو السلوكيات التي
يُطلب من الإنسان أن يلتزم بها. فهذه كلها ليست سوى الطبقات الظاهرة
في البناء الديني، بينما حقيقة الدين الأولى أعمق من ذلك بكثير؛
إنها تبدأ من نصٍّ موحى به، من قرآن وسنّة، يقدّمان للإنسان خطاباً
إلهياً يتوجّه إلى العقل والقلب معاً. غير أن هذا النص، على سموّه
وقدسيته، لا يعيش وحده في الفراغ، ولا يتحوّل تلقائياً إلى عقيدة
راسخة أو سلوك نقي أو حضارة فاعلة. بل يمرّ عبر رحلة طويلة ومعقّدة
من التلقي والفهم والتأويل، قبل أن يصبح جزءاً من الوعي والضمير
والواقع.
والإنسان الذي يتلقّى هذا النص ليس
صفحة بيضاء، بل هو كائن يحمل تجاربه السابقة، وثقافته، ومخاوفه،
وآماله، وتقاليده، وموروثه الاجتماعي والديني. ولهذا فإن النص
الواحد يمكن أن يولد عشرات الصور المتباينة داخل الأذهان، لأن
العبرة ليست بالنص فقط، بل بالطريقة التي نقرأه بها. ولعل هذا ما
يفسّر من أين تتكوّن الفوارق العميقة بين المسلمين في فهمهم للدين،
رغم أن مصدر الدين واحد. فالمشكلة في كثير من الأحيان ليست في
القرآن ولا في السنّة، وإنما في المنهج الذي يتلقّى به المسلم هذا
القرآن، ويستنبط به من السنّة، ويربط به النصّ بالحياة.
ومن هنا يمكن أن نفهم كيف تتحوّل
النصوص نفسها، التي أنزلها الله هداية ورحمة ونوراً، إلى مصدر خلاف
أو جمود أو انحراف حين تُقرأ قراءة مبتورة أو متعسّفة أو منغلقة على
ذاتها. ومن هنا أيضاً نفهم لماذا تظهر في تاريخنا العقيدة المشوَّهة
التي تعكس نصاً لم يُفهم كما أراد الله، ولماذا يظهر الوعي المضطرب
الذي يتعامل مع الدين كأفكار معلّقة لا نسب لها في الواقع، ولماذا
ينتشر التدين الشكلي الذي يقف عند حدود الطقوس دون أن ينفذ إلى عمق
الروح، ولماذا ينحرف السلوك الفردي والاجتماعي حين يُفصل الدين عن
أخلاقه ومقاصده. بل إن الفشل الحضاري نفسه، الذي يُطرح كثيراً بوصفه
إشكالاً في الدين، هو في كثير من الأحيان انعكاس لمنهج قراءة سقيم،
لا لخللٍ في الدين نفسه.
فالدين في جوهره مشروع إلهي لبناء
الإنسان، والإنسان هو الذي يحوّل الخطاب إلى واقع. وإذا كان المنهج
الذي يقرأ به الإنسان هذا الخطاب ناقصاً أو مختلاً أو متجمداً، فإن
النتيجة ستكون صورة ناقصة ومختلّة ومجمدة عن الدين، مهما كان النص
كاملاً. إن القرآن نفسه يشير إلى هذا المعنى بوضوح، حين يربط بين
وجود النص وبين «التدبر» و«التفقه» و«التعقل»، مما يعني أن النص لا
يعمل وحده، بل يعمل من خلال عقلٍ يحمل مسؤولية الفهم. ولهذا قال
تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ﴾، فجعل من التدبّر شرطاً لنيل بركة النص، لا مجرد
قراءته.
ولعلّ أخطر ما يمكن أن يصيب الدين
أن يتحوّل النص إلى جملة من القوالب الجامدة التي تُحفظ ولا تُفهم،
أو تُردّد دون أن تُقرأ، أو يُتعامل معها وكأنها خارجة عن سنن
التاريخ والاجتماع والحياة. فالإنسان الذي يقرأ النص دون أن يمتلك
منهجاً راسخاً، يشبه من يدخل غابةً كثيفة بلا خريطة؛ قد يرى بعض
الأشجار، وقد يتعرّف إلى بعض الملامح، لكنه لا يمتلك القدرة على
رؤية الصورة الكبرى. وإذا لم يرَ الصورة الكبرى، فإن الدين الذي بين
يديه لن يتحول إلى رؤية متكاملة، بل إلى تجميع عشوائي لمعلومات
متفرقة. وهكذا يتحوّل النص من مصدر هداية إلى مصدر فوضى.
وهنا يظهر الدور الخفيّ الذي يتقرر
عنده مصير الدين في واقع الفرد والمجتمع: منهج قراءة الدين.
فالمناهج تختلف بتفاوت مستوياتها، وباختلاف زاوية النظر التي
تعتمدها، وبنوع الأسئلة التي تطرحها على النص. فهناك منهج يقرأ
القرآن بعيون الفقيه، وهمّه استنباط الحكم، وهناك منهج يقرأه بعيون
العارف الباحث عن المعنى الروحي، وهناك من يقرأه بعيون المؤرخ،
وهناك من ينظر إليه ككتاب معرفي يقدّم رؤية عن الإنسان والعالم.
وهذه المناهج، على اختلافها، تعكس حقيقة أن النص الواحد يمكن أن
يفتح مسارات شتى من الفهم، وأن أيّ تضييق في زاوية النظر سيؤدي إلى
تضييق صورة الدين.
والأهم من ذلك أن المنهج ليس مجرد
أدوات تقنية، بل هو رؤية للوجود والحياة. فمن يقرأ النص وهو يحمل
تصوراً متشائماً عن الإنسان سيجد في الدين ما يؤكد تشاؤمه، ومن
يقرأه بنظرة إيجابية سيكتشف الوجه المشرق في الدين. ومن يقرأ النص
بعقلٍ يقدّس العادة والتقليد سيجعل الدين نسخة من الماضي، ومن يقرأه
بروحٍ تتسع لسنن التطور سيجد في الدين مشروعاً نهضوياً يتجاوز
الماضي نحو المستقبل. فالمنهج يحدد كيف نرى النص، ويحدد ما الذي
نعتبره مركزياً وما الذي نراه هامشياً، ويحدد العلاقة بين الثابت
والمتغيّر، بين الحرف والمقصد، بين الجزئي والكلي، بين النص
والواقع.
ولهذا، فإن مشروع إصلاح صورة الدين
لا يمكن أن يبدأ من العقائد أو من الأخلاق أو من السلوكيات، من دون
إصلاح الطريقة التي نقرأ بها هذه العقائد وتلك الأخلاق وهذه
السلوكيات. فكل إصلاح يبدأ من المنبع، والمنبع في الدين هو النص،
والمنهج هو الجسر الذي يصل بين النص والإنسان. فإذا كان الجسر
مائلاً، فلن يصل الإنسان إلى النص كما هو. وإذا كان الجسر متيناً،
أمكن للنص أن يبني في الإنسان ما أراده الله: عقلاً واضحاً، وضميراً
صافياً، ونفساً عادلة، وسلوكاً راقياً، وحضارة تُشبه نور هذا
الكتاب.
وهذا ما يجعل «منهج قراءة الدين»
القضية المركزيّة في كل مشروع معرفي أو إصلاحي. فحين نتحدث عن أزمات
التدين، أو عن الانحراف الفكري، أو عن التشدّد والغلو، أو عن
اللامبالاة الدينية، أو عن الاضطراب بين الطقوس والقيم، فإننا في
الحقيقة نتحدث عن أزمة منهج قبل أن تكون أزمة نص. فالقرآن لم
يتغيّر، والسنّة لم تتغيّر، لكن المنهج الذي يقرأ به المسلمون
نصوصهم شهد عبر التاريخ لحظات صعود ولحظات هبوط. وإذا أردنا أن نعرف
لماذا ينتج مجتمعٌ ما إسلاماً منفتحاً فيما ينتج مجتمع آخر إسلاماً
منغلقاً، فالإجابة تبدأ من هنا: طريقة القراءة.
إن إعادة التفكير في منهج قراءة
الدين ليست ترفاً معرفياً، وليست خطاباً فلسفياً بعيداً عن هموم
الواقع، بل هي ضرورة ملحّة من أجل أن يستعيد الدين حضوره الحيّ في
وجدان المسلمين، ومن أجل أن يصبح الإيمان مشروعاً يبني الحياة لا أن
يتحول إلى شعارات معلّقة. فالدين الذي أنزله الله ليكون رحمة
للعالمين لا يمكن أن يكون سبباً للجمود أو الفوضى أو العنف، إلا إذا
قُرئ قراءةً ضد مقاصده وروحه. والمنهج الصحيح هو الذي يعيد ترتيب
العلاقة بين النص والعقل، بين القرآن والواقع، بين الوحي والحياة،
ليس من أجل تذويب النص في الحداثة، بل من أجل تجديد الصلة الحيّة
بين النص والإنسان.
إن هذا المشروع يطمح إلى إعادة
الدين إلى سياقه الطبيعي: منبع يبدأ بالنصّ، ثم يتحوّل إلى فهمٍ
واعٍ، ثم إلى وعي ثقافي، ثم إلى سلوك يجسّد قيمه، ثم إلى مسار حضاري
يطبع الأمة. وحين نفهم هذه السلسلة ندرك أن أي خلل في إحدى حلقاتها
سينعكس على ما بعدها. فإذا كان الفهم الأول مبتوراً، كان الوعي
الثقافي هشّاً، وإذا كان الوعي هشّاً كان السلوك مشوّهاً، وإذا كان
السلوك مشوّهاً كانت الحضارة التي تنتج عنه حضارة عرجاء. فالمنهج هو
الحلقة الخفية التي تربط البداية بالنهاية، وتصل منبع النص بمصير
الأمة.
لقد آن الأوان لأن نتعامل مع الدين
كما أراده الله: نوراً يفتح العقول، لا قيداً يغلقها؛ ورحمة تهذّب
النفوس، لا خوفاً يشلّها؛ مشروعاً للحياة، لا انسحاباً منها. وهذا
لا يتحقق إلا إذا كان المنهج الذي نقرأ به الدين قادراً على أن
يُعيد للحرف روحه، وللمقصد مركزه، وللإنسان مكانته، وللحياة معناها.
فالدين الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يمكن أن يؤدي
وظيفته إلا إذا امتلك الإنسان الأدوات الصحيحة ليهتدي بنوره.
ومن هنا يبدأ الطريق: من مراجعة
طريقة قراءتنا للدين، من إعادة بناء هذا الجسر الذي يصل بين النص
والواقع، ومن وعيٍ جديد يقول إن الدين ليس مجرد ما نعتقده أو
نمارسه، بل هو ما نفهمه وكيف نفهمه، وما نعيشه وكيف نعيشه، وما
نصنعه بحياتنا حين يتحول الوحي إلى رؤية تبني الإنسان وتبني التاريخ
معاً.
الأكثر قراءة
37018
19905


