7 جمادي الثاني 1447 هـ   28 تشرين الثاني 2025 مـ 11:31 مساءً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2025-11-27   17

الكون والإنسان… حكاية واحدة من النشأة إلى العودة


الشيخ معتصم السيد أحمد
لم تكن الحياة في يومٍ من الأيام مجرّد سلسلة من الأحداث العابرة، ولا حركة عمياء تتكرر بغير معنى. فالعالم من حولنا، بكل اتساعه، يقوم على نظام لا يعرف السكون، وعلى دورة كونية تبدأ من نقطة خفية، ثم تتفرّع وتنمو وتتسع، قبل أن تميل إلى العودة والانطواء. وهذه الحركة العميقة لا تشمل المجرّات البعيدة وحدها، بل تمتدّ إلى تفاصيل الحياة الصغيرة التي نراها ونتعامل معها كل يوم، حتى يصبح الكون والإنسان مَعلَمين في حكاية واحدة، لا ينفصل فيها الأصل عن الفرع، ولا الكلّ عن الجزء.

يروي العلم أن الكون بدأ من لحظة استثنائية تُعرف بالانفجار العظيم، حدثت قبل أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة. كان الكون آنذاك منكمشاً في كتلة صغيرة لا يكاد العقل يتصورها، أشبه بنقطة تتجمع فيها طاقات لا حدّ لها. ثم وقع الانفجار، وانطلقت تلك الطاقات في فضاء شاسع أخذ يتكوَّن شيئاً فشيئاً، حتى ظهرت المجرات والنجوم والكواكب التي نعرفها اليوم. وما زال الكون منذ تلك اللحظة الأولى يتمدد، وتتباعد أجزاؤه كما لو أنّه يواصل رحلة بدأت ولم تنتهِ بعد.

وفي مطلع القرن العشرين، تتابعت الأبحاث التي أيّدت هذه الرؤية. فقد طرح جورج لوميتر قبل نحو مئة عام فكرة “الذرة الأولية”، ثم جاءت ملاحظات إدوين هابل لتؤكد أن المجرات تتحرك مبتعدة عن بعضها بتسارع مستمر، وكأنها تروي قصة الانطلاق من نقطة واحدة.

ولعلّ القارئ الكريم يلمس في هذه الصورة صدىً لآية كريمة طالما استوقفت المفسرين:
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾.

فاللغة هنا دقيقة: الرتق هو الالتصاق، والفتق هو الانفصال. وهذه الصورة القرآنية تشبه، بدرجة لافتة، تصور العلم عن نشأة الكون من كتلة واحدة تضيق حدَّ الانحشار، ثم تتفتق لتنطلق في اتساع لا نهاية له.

وتتأكد هذه الإشارة مرة أخرى في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، فصيغة "لموسعون" اسم فاعل يفيد أنّ عملية التوسع ليست حدثاً انتهى، بل هي حالة مستمرة في الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا ما دفع الكثير من الباحثين إلى الربط بين توسع الكون وبين هذه الإشارة القرآنية.

ومن أولئك الباحثين الدكتور حسني حمدان الدسوقي، أستاذ الجيولوجيا في جامعة المنصورة، الذي يرى أن تاريخ الكون من مولده إلى نهايته يمكن استنباطه من ثمان آيات كريمة، منها آيات تتحدث عن بداية الخلق، وأخرى تشير إلى توسع السماء، وثالثة تفصّل مراحل إعداد الأرض، ورابعة تصف نهاية الكون حين يطوى طيّ السجل للكتب.

فالعلم نفسه يميل في بعض نظرياته إلى فكرة “الانكماش العظيم”، حين يتوقف تمدد الكون ويبدأ في الانقباض مرة أخرى، ليعود كل شيء إلى نقطة البداية. وما بين البداية والنهاية، تبدو الدورة الكونية الكبرى وكأنّها حلقة تتكرر في صور مختلفة ضمن سنن الله في الخلق.

غير أنّ هذه الدورة لا تقتصر على الكون كله، بل نجدها في حركة مجرتنا التي تدور حول مركزها دورة تستغرق ملايين السنين، كما نجدها في حركة الأرض حول الشمس، وفي دورانها حول نفسها كل يوم، حيث يتولد الليل والنهار، وتتغير الفصول، ويتبدل المناخ.

فالنهار يخرج من رحم الليل، ثم يتدرج في النور حتى يبلغ ذروته، ثم يبدأ في الانحسار ببطء، ليعود الليل من جديد. والبحار تتبخر مياهها بفعل الشمس، فتتجمع في السحاب، ثم تهطل مطراً، ثم تعود إلى الأنهار والبحار مرة أخرى. والنبات يخرج من الأرض غضّاً نضِراً، ثم يذبل ويصفر، ثم يعود بعد زمن إلى الاخضرار حين يصله المطر. ولهذا قال تعالى: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾، وقال: ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ حُطَامًا﴾. وهكذا تتكرر الدورة في كل شيء، ولعل الآيات الكريمة: ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، و﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾، تشيران إلى هذا المعنى: البدء، ثم العودة، ثم المآل. 

والإنسان – في كل ذلك – ليس بعيداً عن هذه السنن. فهو يبدأ من نطفة صغيرة، ثم ينتقل بين مراحل الخلق، ثم يكبر ويشتد عوده، ثم يأخذ منه العمر، ليعود إلى الضعف الأول. وهذه الدورة نفسها جسّدها القرآن في قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾. 

ويبقى السؤال: لماذا يلفت القرآن النظر إلى هذه الدورات؟
الجواب: لأنّ إدراك هذه الحركة الدائرية يجعل الإنسان واعياً بأن الحياة ليست فوضى، وأن الموت ليس نهاية، وأن الكون نفسه شاهدٌ على قانون البعث. فكما تعود الأرض إلى الاخضرار بعد موتها، وكما يعود الضوء بعد الظلام، وكما قد يعود الكون إلى نقطة البداية، كذلك الإنسان سيعود إلى خالقه.

وما بين النشأة والعودة، تمتد حياة لها معنى، ومسار له غاية، ووجود محكوم بالحكمة لا بالفوضى.
وفي الختام؛ إن إطلالة سريعة على دورات الكون تكشف لنا أن الوجود كلّه يتحرك على خط واحد، وأن الإنسان ليس شيئاً منفصلاً عن هذا القانون. ومع اتساع النظريات العلمية اليوم، فإن من المهم أن نُبقي في أذهاننا أن العلاقة بين القرآن وهذه النظريات تقوم على الاحتمال لا اليقين. فالعلم متغير بطبيعته، وما يبدو حقيقة ثابتة قد يتحول بعد سنوات إلى افتراض متجاوز، أو نموذج يحتاج إلى تصحيح. لذلك ينبغي أن يكون استئناسنا بالاكتشافات العلمية بوصفها أدوات توسع فهمنا للآيات، لا بوصفها تفسيرات نهائية لها.

فالقرآن كتاب هداية وإشارات كونية كبرى، وليس كتاباً مدرسياً في الفيزياء. والعلم من جهته يساعد الإنسان على إدراك جانب من حكمة الخالق في الخلق، ويدفعه إلى مزيد من التأمل في الآفاق والأنفس. وبين العلم والوحي خيط من التناغم لا يفرض على أحدهما أن يحل محل الآخر، بل يتيح لهما أن يكملا رحلة الإنسان نحو الفهم والبصيرة.

وبهذا تبقى دورات الكون ورسائل القرآن مفتوحة أمام العقل المتأمل، تشهد بأن البدايات لم تُخلق لتبقى بلا نهايات، وأن العودة جزءٌ من النشأة، وأن الحكاية الكبرى بين الإنسان والكون واحدة، تبدأ من التراب، وتمتد في السماء، وتعود إلى الله.

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م