
2025-12-12 29

الدائرة التي لا تنكسر: الإنسان من الضعف إلى الضعف
الشيخ معتصم السيد أحمد
يولد الإنسان وهو يحمل ملامح العجز
الأولى؛ يفتح عينيه على عالم لا يملك فيه من أمره شيئاً، فلا يقوى
على الحركة، ولا يستطيع التعبير، ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه إن
اعتدى عليه شيء، ولا كيف يطلب طعاماً أو شراباً. تلك البداية
الضعيفة ـ التي تأتي بلا حول منه ولا قوة ـ هي أول نقطة في الدائرة
الوجودية التي يطوي فيها الإنسان عمره كله.
ثم يكبر شيئاً فشيئاً، فتشتدّ
عظامه، وتقوى عضلاته، وتتسع مداركه، وتظهر مواهبه، ويبدأ في اكتشاف
العالم، ويشعر لأول مرة أنه قادرٌ على صنع شيء، وأن له إرادة
مستقلة. وفي مرحلة الشباب، يرى نفسه في ذروة القوة، وكأن العمر يسير
صعوداً دون توقف. غير أنّ الحقيقة المحكمة التي لا يخطئها النظر هي
أنّ القوة ليست سوى مرحلة وسطى قصيرة في رحلة طويلة، تبدأ بضعف
وتنتهي بضعف، وتبقى القوة مجرد قوس صغير في الدائرة التي تحكم كل
شيء في حياة الإنسان.
هذه الرؤية ليست تأملاً فلسفياً أو
انطباعاً شعورياً، بل هي حقيقة قرآنية مؤكّدة رسمها الله تعالى في
آيات عديدة، لتكون للإنسان مرآة يرى فيها نفسه، ودرساً في معنى
الوجود، وتنبيهاً إلى أصل المصير. يقول الله تعالى في وصف هذه
الرحلة:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِنْ
تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾.
في هذا الترتيب الإلهي البديع
تتجلّى الدورة الوجودية بكل وضوح: ضعف أول، ثم قوّة، ثم ضعف
آخر.
وأعمق من ذلك، أن القرآن يبيّن أنّ
نهاية الإنسان ليست ضعفاً جسديّاً فقط، بل قد تكون ضعفاً معرفياً
أيضاً، حين يجرد الإنسان من علمه الذي حصّله طوال حياته، فيعود كما
كان في بدايته:
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ
شَيْئًا﴾.
وهذه الصورة الموجعة ـ التي قد
يغفل عنها كثيرون ـ تكشف أن الإنسان مهما بلغ من العلم، فمصيره في
نهاية المطاف إلى الضعف في الإدراك والرؤية والذاكرة. وهذا الضعف
الثاني ليس انحداراً فوضوياً، بل مرحلة مقصودة في الدائرة الكبرى
للوجود.
فإذا رجعنا خطوة إلى الوراء، إلى
اللحظة الأولى التي يبدأ فيها تكوّن الإنسان، سنلاحظ أنّ الدورة لا
تظهر في العمر فقط، بل في طبيعة التكوين نفسه. فالنطفة ـ وهي أول
خيط في خلق الإنسان ـ تقتحم البويضة التي تتخذ شكلاً دائرياً، ثم
يبدأ الجنين بالالتفاف حول ذاته داخل الرحم. وتظهر الصور الحديثة
لطبّ الأجنّة أنّ الجنين في أشهره الأولى يأخذ وضعاً منحنياً
مقوساً، في شكل دائري واضح، وكأنّه يحتضن نقطة البداية التي سيعود
إليها في نهاية الرحلة.
حين يولد، يبدأ في الانتصاب شيئاً
فشيئاً، حتى يقف مستقيم الظهر، ويتحرك بثبات. لكن الزمن، حين يدور
دورته، يعيده إلى الوضع المقوّس ذاته، حيث ينحني الظهر، وتضعف
العظام، وتتقلّص قدرة الإنسان على الحركة، وكأنّ الجسد يتراجع
تدريجياً نحو الصورة الأولى التي بدأ بها.
إنّ هذا التشابه بين البداية
والنهاية ليس صدفة، بل حكمة مقصودة، يؤكدها قوله تعالى:
﴿كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ﴾.
فالعودة هنا ليست عودة روحية فحسب،
بل هي أيضاً عودة جسدية، وسلوكية، وإدراكية، لتكتمل دائرة
الحياة.
وحين ننظر داخل الإنسان نفسه، نجد
أنّ الدائرة ليست محصورة في مسار العمر وحده. بل حتى أبسط وظائف
الجسد تقوم على فكرة الحركة الدائرية.
فالدم، وهو الحياة الظاهرة، يعتمد
على دائرة مغلقة، يتحرك فيها عبر الشرايين والأوردة التي يبلغ مجموع
أطوالها أكثر من 164 ألف كيلومتر. وهذا الدم مكوّن من كريات حمراء
وبيضاء، أغلبها ذو شكل دائري، وكأنّ الدائرة مختومة في أصل
تكوينه.
والتنفس حركة دائرية أخرى: شهيق
يملأ الصدر، يليه زفير يفرغه، في دورة مستمرة لا تنتهي إلا مع
انتهاء الحياة.
وحتى النوم واليقظة يشكلان دائرة
يومية يتكرر فيها الإنسان دون أن يشعر: يبدأ بكامل وعيه، ثم ينحدر
إلى النوم، ثم يستيقظ كما كان، في حركة دائبة تشبه صعوداً وهبوطاً
لا ينفصلان.
وإذا توسع الإنسان في النظر إلى
الكون، وجد أن الدائرة نفسها تتكرر فيه:
الأرض تدور حول نفسها.
وتدور حول الشمس.
والشمس تدور في مجرة ضخمة.
والمجرات كلها تدور في نسيج كوني
هائل.
وهذا التناسق بين الإنسان والكون
يؤكد أن الإنسان ليس جسداً منفصلاً، ولا كائناً معزولاً، بل جزءٌ من
دورة أكبر، ينساب ضمنها امتثالاً لنظام إلهي محكم.
والوقوف عند معنى الضعف ليس مجرد
مقارنة بين حالتين، بل هو درس جوهري في فهم الذات. فحين يدرك
الإنسان أنّه بدأ ضعيفاً وسيعود ضعيفاً، تنكسر داخله أوهام القوة
الزائفة، ويعرف أنّ ما بين البدايتين مجرد أمانة مؤقتة، لا يملكها
على الحقيقة، بل هي فضل من الله يسترده متى شاء.
إنّ معرفة الإنسان بضعفه الأول
تجعله أكثر رحمة بالضعفاء. ومعرفته بضعفه الأخير تجعله أكثر
استعداداً للأيام الآتية، وأقل غروراً في أيام القوة. وكلما زاد
وعيه بالدائرة، قلّ تعلّقه باللحظة، لأن اللحظة نفسها جزء صغير من
دورة أكبر تتجاوزه وتحتضنه في الوقت نفسه.
والقرآن حين يصف الإنسان بأنه
يتقلب بين ضعف وضعف، إنما يدعوه إلى هذا النمط من الوعي. ولهذا نجد
أن الآيات التي تعرض خلق الإنسان وتكوينه لا تكتفي بوصف الطبيعة، بل
تختم عادةً بدعوة للتفكر أو التعقل: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
فما بين الضعف الأول والضعف
الأخير، يملك الإنسان فترة محدودة يُختبر فيها. ليست حياته هي
الهدف، بل عمله فيها، لأنها محطة بين عدمين:
عدمٌ قبله، وعدمٌ بعده، ثم بعثٌ
يخرج فيه من الدائرة إلى عالم آخر.
أو كما قال أمير المؤمنين عليه
السلام فيما نسب له:
ما فات مضى وما سيأتي أين * قم
فاغتنم الفرصة بين العدمين
ولذلك جعل القرآن البعث امتداداً
لهذه الدورة نفسها، واعتبر أن الذي يرى تكوّن الجنين ثم وفاة الشيخ
لا يمكنه أن يستغرب فكرة حياةٍ بعد موت، لأن المعنى واحد، والسنة
واحدة، والدورة لا تنكسر.
وفي هذا السياق، تأتي آيات الأرض
الهامدة التي تحيا بالماء:
﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾
ليقول الله للإنسان: انظر إلى دورة
النبات، ثم انظر إلى دورة نفسك، واعلم أن الذي أحيا الأرض قادر على
أن يحييك بعد موتك.
وفي الختام:
حين يكتشف الإنسان أنّ حياته دائرة
تبدأ بالضعف وتنتهي بالضعف، فإن هذا الإدراك لا ينبغي أن يبعث على
اليأس، بل على الحكمة. فالضعف الأول يذكّره بأنه لم يخلق نفسه،
والضعف الأخير يذكّره بأنه لن يبقى فيها، وبينهما مساحة واسعة من
الاختيار والإرادة والعمل هي جوهر امتحانه.
وإذا كانت الحياة دائرة، فإن ما
يحمله الإنسان منها ليس شكله ولا قوته ولا ماله، بل قيمته. القيمة
هي الشيء الوحيد الذي لا يدور إلى الخلف، بل يصعد نحو الله، ويبقى
أثره مفتوحاً بعد انتهاء الدورة.
والدائرة الكبرى التي تحكم حياة
الإنسان تعلمه ثلاثة أمور كبرى:
التواضع: لأن القوة ليست أصلاً بل
مرحلة عابرة.
الرحمة: لأن الضعفاء اليوم
يشبهوننا كما كنّا وسنكون.
البصيرة: لأن الإنسان حين يرى
النهاية في بدايته، يدرك معنى الطريق، وأن الزمن ليس مساحة للغفلة،
بل فرصة لصناعة معنى.
وحين يقترب الإنسان من نهاية
الدائرة، يعود كما بدأ، لكن الفرق الوحيد بين البداية والنهاية هو
ما حمله من التجربة والمعرفة والقيم. ففي البداية يدخل فارغاً، وفي
النهاية يغادر بما اكتسبه قلبه وروحه.
وهكذا يعلّمنا ضعفنا الأول أن نكون
بشراً، ويعلّمنا ضعفنا الأخير أن نكون حكماء. أما ما بين الضعفين،
فهو رحلة البحث عن الله، وعن المعنى، وعن القيمة التي ترفع الإنسان
فوق دائرته إلى أفق الخلود.
الأكثر قراءة
37589
19962


