
2025-12-12 35

قوانين النهوض والانهيار: ميلاد الحضارات وموتها
الشيخ معتصم السيد أحمد
تبدو الحضارات في ظاهرها صروحاً
شامخة تمتد قروناً وتتجاوز الأجيال، لكنّ النظرة العميقة تكشف أنّ
وراء هذا الامتداد الهائل دورةً كبرى شبيهة بالدورة الإنسانية التي
يخضع لها الفرد في مسار حياته. فالإنسان يولد ضعيفاً ثم يشتدّ عوده
ويقوى، ثم يتقدّم به العمر، ويبدأ في الانحدار حتى يعود إلى الضعف
من جديد. وكذلك الحضارات؛ تبدأ شرارة صغيرة في نفس فرد، تتحول إلى
رغبة جماعية، ثم تتحول إلى مشروع اجتماعي، فتقوم حضارة قوية فتية،
تلبث أن تبلغ أوجها قبل أن تسلك طريق الضعف، ثم السقوط، ثم
الاندثار.
فالحضارة، في جوهر تعريفها، ليست
حجارة ولا مباني ولا آثاراً جامدة، بل هي نتاج نشاط الأمم في عمارة
الأرض وتنظيم الحياة وتفعيل ما في النفس من طاقات كامنة. وحين يكون
نشاط الأمة انعكاساً لنشاط أفرادها، فمن الطبيعي أن تكون حضارتها
شبيهة بحياة أفرادها، فكلاهما يولد، ينمو، يزدهر، ثم يشيخ ويذبل
وينقضي.
وإذا تتبعنا جذور الحضارات الكبرى
عبر التاريخ، فسنجد أنّها جميعاً بدأت بفكرة بسيطة، قد تكون حلماً
في ذهن رجل واحد، أو دعوة في قلب مصلح، أو رغبة في التحرر، أو إرادة
لتغيير الواقع. هذه الفكرة ـ مهما بدت ضئيلة في بدايتها ـ تنمو
وتكبر حين تجد أرضاً خصبة في نفوس الناس، وحين تتجسد في أهداف
عملية، فتتحول إلى عمل ونشاط اجتماعي يمتد تدريجياً حتى يغدو هوية
جماعية لدولة أو أمة كاملة.
هكذا بدأت حضارات التاريخ:
حضارة وادي الرافدين، من مراسيم
تنظيم الزراعة الأولى.
وحضارة مصر القديمة، من رغبة
القبائل في بناء مجتمع حول نهر يهب الحياة.
والحضارة الإسلامية، من صحوة روحية
بدأت في نفس فردٍ واحد، ثم تحولت إلى رسالة وعمل وتغيير جذري في
الإنسان والمجتمع.
وبعد الولادة، تمر الحضارة بمرحلة
الطفولة؛ حيث تتشكل نظمها الأولى، وتبني أدواتها، وتعرف أولى
تجاربها في الحكم والإدارة وتنظيم شؤون الناس. ثم تصل إلى مرحلة
الشباب والقوة، وهي المرحلة التي ترتفع فيها منجزاتها، وتزدهر
العلوم والفنون، وتتعاظم القوة السياسية والعسكرية، ويبلغ العمران
ذروته. وهذه هي الفترة التي تترك فيها الحضارات آثارها الكبرى التي
نراها في التاريخ.
غير أن هذه القوة لا تدوم أبداً،
لأنها ليست حالة مستقرة في طبيعة الحضارات. وكما لا يبقى الإنسان في
شبابه، كذلك لا تبقى الحضارات في أوجها. فالضعف يبدأ بالتسلل إليها
من الداخل:
فساد الإدارة،
اختلال منظومة القيم،
تراجع الوعي،
تحول العمل إلى كسل،
واستبدال الاجتهاد
بالتقليد،
وانشغال القادة بالمكاسب الذاتية
بدل الأفق العام.
ثم تتحول هذه العلامات إلى أعراض
انحدار، وتتعرض الحضارة لهزات داخلية وخارجية، وتتآكل قوتها
تدريجياً، حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة الحضارية، حيث تفقد القدرة
على حماية نفسها أو على التجدد من الداخل، فتسقط أمام قوة جديدة
تملك شروط الميلاد التي فقدتها الحضارة القديمة.
وهذا يفسر لماذا نجد أنّ الحضارات
الكبرى تتوالى عبر التاريخ، كل واحدة تملأ فراغ الأخرى، تماماً كما
يأتي جيل بعد جيل في دورة لا تنقطع.
قد يقول البعض إن الحضارة ليست
إنساناً يموت، بل تنتشر في الأجيال وتنتقل من منطقة لأخرى؛ فكيف
نقول إنها تتوالد وتموت؟ والجواب أنّ الحضارات وإن كانت تستعير من
سابقاتها أسساً ومعارف ومؤسسات، إلا أنّها ليست مجرد استمرار خطي؛
بل هي حلقات متعاقبة، لكل حلقة خصائصها الفردية، ودورتها الخاصة،
ونضجها الخاص. تماماً كما يستمد الطفل من أبويه ملامحه الأساسية،
لكنه في النهاية يصبح ذاتاً مستقلة لها دورة حياتية كاملة خاصة
بها.
إنّ القوانين التي تحكم ميلاد
الحضارات وسقوطها ليست قوانين بشرية، ولا قراراً سياسياً، ولا رغبة
قائد، بل هي سنن ثابتة، أشار القرآن إليها بوضوح، مؤكداً أنّ
المجتمعات تخضع لقوانين كما تخضع الظواهر الكونية للقوانين نفسها.
يقول الله تعالى عن الشمس: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَهَا﴾، ويقول عن القمر: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ
حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾.
فكما أنّ حركة القمر خاضعة لدورة
محددة لا تتبدل، كذلك الحضارات خاضعة لسنن إلهية في قيامها وسقوطها.
وهي لم تُترك للصدفة ولا للارتجال، بل تُدفع وفق قوانين دقيقة أشبه
بحركة الفلك، حتى لو ظنّ الناس أنّ ما يحدث صدفة.
وقد لخّص القرآن هذه السنّة بقوله
تعالى:
﴿إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
فهذه الآية تكشف مفتاح الدورة
الحضارية كله؛ لأن بدايات الحضارة ونهاياتها تبدأ من النفس قبل أن
تظهر في الواقع.
حين تكون النفوس مستعدة للفكرة،
تولد الحضارة.
وحين تتخلى النفوس عن المبادئ
والقيم، تهرم الحضارة وتموت.
ومن يتأمل التاريخ سيرى أنّ
الحضارات الكبرى لم تُهزم من الخارج إلا بعد أن هُزمت في
داخلها.
سقطت الدولة الأموية لأن العصبية
الداخلية مزقت وحدتها.
وسقطت الدولة العباسية حين انشغل
خلفاؤها بالترف وأهملوا العلم والسياسة.
وسقطت الإمبراطورية الرومانية بعد
أن استُنزفت من الداخل قبل أن تأتيها ضربات الخارج.
وسقط الاتحاد السوفيتي من داخله
حين انهارت قيمه، لا حين وقفت ضده القوى الأخرى.
وهكذا يتبين أن الدورة الحضارية
ليست وهماً، بل قانوناً تاريخياً ثابتاً لا يتبدل.
لكن السؤال الأهم: هل السقوط نهاية
مطلقة؟
الجواب: أبداً. فكما يولد جيل جديد
بعد موت الجيل القديم، تولد حضارات جديدة من ركام الحضارات السابقة.
فقد تسقط دولة، لكن تبقى الفكرة. وقد ينهار مجتمع، لكن تبقى القيمة.
وقد تندثر إمبراطورية، لكن تبقى العلوم والمعارف التي أنتجتها تنتقل
إلى حضارة أخرى فتكون جزءاً من تكوينها الجديد.
وهنا يظهر قانون آخر: أن الحضارات
ليست خطوطاً منفصلة، بل هي جسور متصلة، تسلّم الواحدة منها الراية
للتي بعدها.
فلو لم تسقط أثينا لما نهضت روما،
ولو لم تضعف روما لما ازدهرت أوروبا الحديثة، ولو لم تنتقل علوم
المسلمين إلى أوروبا لما وُلد عصر النهضة.
وفي الختام: ما معنى أن نفهم
الدورة الحضارية؟
إن فهم أن للحضارة دورة حياة يشبه
فهم الإنسان لدورة حياته. فكلاهما يعلم أنه لن يبقى شاباً إلى
الأبد، وأن القوة مهما عظمت فهي مؤقتة، وأن الضعف ليس عاراً بل
مرحلة طبيعية في السير. وبالمثل، ليست شيخوخة الحضارات ولا سقوطها
علامة ضعف في الخلق، بل هي جزء من سنّة التجدد التي يبعث الله بها
الأمم جيلاً بعد جيل، وحضارة بعد حضارة.
لكن الوعي بهذه السنن يمنحنا شيئاً
أكبر من الفهم:
إنه يمنحنا القدرة على التدخل في
مصيرنا.
فإن كنا نعرف أن شروط الميلاد
معروفة، وأن أسباب السقوط واضحة، فإن بوسع المجتمعات أن تُطيل عمر
حضارتها، أو تجدد شبابها، أو تمنع نهايتها المبكرة. فالحضارة لا
تموت فجأة، بل تتآكل تدريجياً، ومن يدرك بداية التآكل يمكنه أن
يعالج ما يضعفها.
ولهذا فإن دراسة الدورة الحضارية
ليست تمريناً فكرياً، بل ضرورة للأمم التي تبحث عن مستقبل
أفضل.
فالذي يعرف أن صعود الحضارات يبدأ
من الفكرة ومن الإنسان، سيهتم ببناء الإنسان قبل بناء
الأبراج.
والذي يعرف أن سقوط الحضارات يبدأ
من القيم قبل الجغرافيا، سيحمي منظومته الأخلاقية قبل أن يحمي
حدوده.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة الكبرى
واضحة:
الحضارة ليست مجرد مرحلة في
التاريخ، بل هي قصة الإنسان حين يكتشف طاقته، ثم يستهلكها، ثم
يسلّمها لمن بعده؛ تماماً كما يولد الفرد، ويكبر، ويشيخ، ثم يخلفه
جيل جديد يكمل المسيرة.
وهكذا تسير الحضارات…
لا بالصدفة، ولا بالسياسة وحدها،
بل بقوانين إلهية ثابتة، سنّت للدنيا نظاماً لا يتبدل:
ميلاد… وشباب… وقوة… ثم هبوط…
فاندثار… لتولد من بعدها حضارة جديدة، في دورة لا تتوقف ما دام
الإنسان على هذه الأرض.
الأكثر قراءة
37589
19962


