

الهزيمة بوصفها فكرة ... والنصر بوصفه امتحاناً
الشيخ
معتصم السيد أحمد
ليس التاريخ سجلّاً للمعارك، بل سجلّاً للأفكار التي سبقتها. وما يُسمّى انتصاراً أو هزيمة في لحظة ما، ليس إلا الأثر الظاهر لمسارٍ أعمق تشكّل في الوعي الجمعي، وفي منظومة القيم، وفي طريقة فهم الإنسان لذاته ولموقعه في العالم. فالأمم لا تُهزم حين تخسر الحرب، بل تخسر الحرب لأنها هُزمت من قبل في داخلها، كما أنها لا تنتصر لأنها قاتلت جيداً فقط، بل لأنها امتلكت قبل ذلك شروط المعنى الذي يجعل القتال – أو أي مواجهة – ذا اتجاه واضح.
الهزيمة، في جوهرها، ليست حدثاً عسكرياً، بل حالة فكرية وروحية. إنها اللحظة التي ينفصل فيها الفعل عن المعنى، وتتحول القوة إلى غاية، وتغيب فيها البوصلة التي تميّز بين ما هو ممكن وما هو مشروع. وحين تصل أمة إلى هذه الحالة، فإن خسارتها تصبح مسألة وقت، حتى لو بدت في ظاهرها قوية، متماسكة، قادرة على فرض إرادتها. فالقوة التي لا يحكمها وعي، تتحول سريعاً إلى عبء على صاحبها، وتصبح أداة تدمير ذاتي بدل أن تكون وسيلة بناء.
أما النصر، فهو بدوره ليس ذروة أخلاقية ولا شهادة تفوق نهائية، بل امتحان دقيق. فالانتصار يكشف ما لا تكشفه الهزيمة، لأنه يختبر قدرة الأمة على ضبط ذاتها، وعلى مقاومة وهم الاكتمال. كثير من الأمم سقطت لا لأنها ضعيفة، بل لأنها صدّقت أنها لم تعد قابلة للسقوط. وهنا يتحول النصر من فرصة ترسيخ القيم إلى لحظة تضخم للذات، ومن نقطة انطلاق إلى بداية انحدار.
من هذا المنظور، يمكن القول إن التاريخ لا يعاقب الأمم على ضعفها، بقدر ما يعاقبها على جهلها بذاتها. فالهزيمة التي تُفهم بوصفها مؤامرة فقط، تتحول إلى قدر دائم، بينما الهزيمة التي تُفهم بوصفها خللاً في الشروط، تصبح مدخلاً للمراجعة. وكذلك النصر الذي يُقرأ بوصفه استحقاقاً ذاتياً مطلقاً، يزرع في داخله بذور زواله، بينما النصر الذي يُقرأ بوصفه أمانة، يفتح أفق الاستمرار.
ولهذا لم يكن من المصادفة أن يربط القرآن بين النصر والهزيمة من جهة، وبين السنن من جهة أخرى. فالنص القرآني لا يتعامل مع التاريخ بوصفه مسرحاً للعقاب والثواب المباشر، بل بوصفه مجالاً لتجلي القوانين. «لله الأمر من قبل ومن بعد» ليست عبارة لاهوتية مجردة، بل إعلان فلسفي بأن النتائج لا تُفهم إلا ضمن سياق الأسباب، وأن العدل الإلهي لا يُختزل في اللحظة، بل في المسار. فالأيام تُداول، لا عبثاً، بل ليُكشف ما في النفوس، ويُفرز الصادق من المدّعي، والواعي من المغتر.
وحين نقرأ التجربة الإسلامية الأولى من هذا الأفق، تتضح معانيها بعيداً عن القراءة الوعظية السطحية. فالنصر في بدر لم يكن تتويجاً نهائياً، بل كان بداية اختبار الوعي. والهزيمة في أُحد لم تكن سقوطاً أخلاقياً، بل صدمة تربوية كشفت أن الإيمان وحده لا يكفي ما لم يُترجم إلى انضباط وطاعة ووعي بالمآلات. أما نصر الأحزاب، فلم يكن نتيجة قوة مادية فائقة، بل ثمرة وعيٍ تشكّل من رحم التجربة السابقة. هنا تتجلى الدورة لا بوصفها تكراراً ميكانيكياً، بل حركة جدلية بين الخطأ والتصحيح، بين الغفلة والانتباه.
هذا المنطق لا يخص أمة بعينها، ولا تجربة دينية محددة، بل هو قانون عام في حركة التاريخ. فالأمم الحديثة التي خرجت من تحت أنقاض الحروب، لم تنهض لأنها هُزمت، بل لأنها فهمت هزيمتها. أدركت أن ما سقط لم يكن فقط الجدران والاقتصاد، بل نموذج التفكير نفسه. لذلك أعادت بناء الإنسان قبل أن تعيد بناء المصانع، وأعادت الاعتبار للعلم والانضباط والعمل طويل الأمد، لا للثأر ولا للشعارات. وحين استقرت هذه الشروط، جاء النهوض كتحصيل حاصل، لا كمعجزة.
وفي المقابل، فإن الأمم التي امتلكت القوة والهيمنة، لكنها لم تمتلك القدرة على نقد ذاتها، بدأت تفقد توازنها من الداخل. فالاستبداد ليس مجرد نمط حكم، بل حالة فكرية تقوم على وهم العصمة، وعلى إلغاء العقل الجماعي. والغرور ليس مجرد صفة نفسية، بل خلل معرفي يجعل الأمة تعجز عن رؤية أخطائها. وحين يجتمع الاستبداد والغرور، تتعطل آليات التصحيح، وتتحول القوة إلى مسار انتحاري بطيء.
من هنا يمكن فهم المأزق العربي والإسلامي المعاصر بوصفه مأزقاً في الوعي قبل أن يكون مأزقاً في السياسة أو الاقتصاد. فالهزيمة التي نعيشها اليوم ليست وليدة لحظة تاريخية واحدة، بل نتيجة تراكم طويل من اختلال العلاقة بين القوة والقيم، وبين الدين والواقع، وبين السلطة والمسؤولية. وحين تتحول الهوية إلى شعار، والقيم إلى خطاب، والعمل إلى أمنيات، يصبح التراجع حالة طبيعية، لا استثناء.
غير أن الفلسفة التي ترى في التاريخ منطقاً لا عبثاً، تفتح في الوقت نفسه باب الأمل. فكما أن السقوط لم يكن صدفة، فإن النهوض ليس مستحيلاً. لكنه مشروط بعودة السؤال الجوهري: ما الذي نريده؟ لا بمعنى الطموح العاطفي، بل بمعنى المشروع الواعي. فالأمم لا تنهض لأنها تريد النهوض، بل لأنها تعيد تعريف ذاتها، وتعيد ترتيب أولوياتها، وتملك الشجاعة للاعتراف بأخطائها دون تبرير.
إن أخطر ما يمكن أن يواجه أمة مهزومة هو الهروب من السؤال الفلسفي إلى الجواب السياسي السريع. وأخطر ما يمكن أن يواجه أمة منتصرة هو الهروب من السؤال الأخلاقي إلى الاحتفال بالنتائج. ففي الحالتين، يُلغى التفكير العميق، ويُستبدل بردود أفعال آنية، لا تبني مستقبلاً ولا تصنع معنى.
الهزيمة، حين تُقرأ فلسفياً، ليست نقيض النصر، بل شرط وعيه. والنصر، حين يُقرأ أخلاقياً، ليس غاية، بل مسؤولية. وبين الهزيمة والنصر تتحرك الأمم في دائرة مفتوحة، لا يحكمها القدر الأعمى، بل وعي الإنسان بسنن التاريخ، وقدرته على التعلم منها.
وحين ندرك أن المعركة الحقيقية لا تُخاض في الميدان فقط، بل في العقل والضمير، نفهم أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع. هناك، في عمق الفكرة، تبدأ الهزيمة أو يولد النصر، قبل أن يدوّنهما التاريخ في صفحاته.


