

تشابه البشر في الدوافع واختلافهم في الاختيار
الشيخ معتصم السيد احمد
يخطئ الإنسان كثيراً حين يتعامل مع
الآخرين على أساس أنّ دوافعهم مختلفة جذرياً عن دوافعه، أو أنّ ما
يحرّكه لا يمكن أن يحرّك غيره. هذا الوهم هو أحد أكثر الأوهام رسوخاً
في الوعي الاجتماعي، وهو الذي يصنع مسافة نفسية مصطنعة بين الناس،
ويغذّي سوء الفهم، ويبرّر القسوة أحياناً، والتعالي أحياناً أخرى.
والحقيقة أنّ البشر، في عمقهم النفسي، أكثر تشابهاً مما نحبّ أن نعترف
به، وأنّ الاختلاف الحقيقي لا يكمن في أصل الدافع، بل في طريقة
التعامل معه، وفي المسار الذي يُسمح له أن يسلكه.
لو تأمّل الإنسان في نفسه بصدق، لوجد
أنّ ما يسكنه من رغبات وطموحات ومخاوف هو نفسه ما يسكن غيره. الجميع
يحبّ أن يُقدَّر، وأن يُذكر بخير، وأن يشعر بأنّ لوجوده معنى وأثراً.
الجميع ينزع، بدرجات متفاوتة، إلى الشعور بالتفوّق، أو على الأقل إلى
عدم الشعور بالدونية. الجميع يتألّم حين يُهمَّش، ويفرح حين يُعترف
به، ويغضب حين يُتجاهل، ويطمئن حين يُحتفى به. هذه ليست صفات لفئة دون
أخرى، ولا أمراضاً نفسية استثنائية، بل هي مكوّنات أساسية في البنية
النفسية للإنسان.
ومن أكثر ما يضلّلنا في فهم الإنسان
أنّنا نحاكم السلوك دون أن نلتفت إلى الدافع. نرى شخصاً يطلب المكانة،
فنصفه بالطموح المذموم، ونرى آخر يسعى إلى الظهور، فنرميه بحبّ
الشهرة، ونرى ثالثاً يجمع المال، فنختزله في الجشع. لكنّنا ننسى أنّ
الدافع الأصلي قد يكون واحداً: الحاجة إلى الأمان، أو الرغبة في
الاعتراف، أو الخوف من التلاشي. الفرق ليس في وجود هذه الحاجة، بل في
الطريق الذي اختاره كلّ واحد لإشباعها.
إنّ حبّ المكانة، مثلاً، ليس
انحرافاً أخلاقياً بحدّ ذاته. هو تعبير عن رغبة عميقة في أن يكون
للإنسان وزن في هذا العالم، وأن لا يكون مجرّد رقم
عابر.
المشكلة تبدأ حين تتحوّل هذه الرغبة
إلى هوس، وحين تُنتزع من سياقها القيمي، فتغدو مبرّراً لإقصاء
الآخرين، أو سحقهم، أو التعدّي على حقوقهم. هنا لا يكون الخلل في
الدافع، بل في غياب الضابط الذي يوجّهه.
وكذلك حبّ الامتلاك. الإنسان بطبعه
يميل إلى أن يكون له ما ليس لغيره، أو على الأقل ما يقيه الحاجة
والعوز. هذا الميل، في حدّه الطبيعي، هو ما يدفعه إلى العمل،
والإبداع، وبناء الحضارات. لكنّه يتحوّل إلى مشكلة حين لا يعرف حدّاً،
وحين يصبح الامتلاك غاية في ذاته، لا وسيلة للحياة الكريمة. النفس، في
هذا المجال، لا تشبع بسهولة؛ فإذا بلغت مستوىً معيّناً من المال أو
النفوذ، سرعان ما تطلّعت إلى ما هو أبعد، لا لأنّ الحاجة حقيقية، بل
لأنّ الرغبة بطبيعتها تمدّ أفقها باستمرار.
ومن هنا تنشأ واحدة من أكثر
المفارقات الإنسانية إيلاماً: أناس يملكون الكثير، لكنّهم يعيشون في
قلق دائم، وأناس يملكون القليل، لكنّهم أكثر طمأنينة. الفارق هنا ليس
في حجم ما يملكه الإنسان، بل في علاقته بما يملك. هل هو سيّد ما في
يده، أم أسير له؟ هل المال والمكانة في خدمته، أم أنّه في خدمتهما؟
هذا السؤال هو الذي يرسم الحدّ الفاصل بين الاستقرار النفسي والاضطراب
الدائم.
والأمر نفسه يصدق على الصراع بين
الكرم والبخل، والشجاعة والخوف، والإقدام والتردّد. لا يوجد إنسان
خُلق كريماً خالصاً بلا بخل، ولا شجاعاً مطلقاً بلا خوف. هذه صورة
مثالية لا وجود لها في الواقع. الكرم هو قدرة على تجاوز نزعة الإمساك
حين يحين وقت العطاء، والشجاعة هي قدرة على ضبط الخوف لا إلغائه. ومن
يظنّ أنّ الفضيلة تعني انعدام النزعة المقابلة، فإنّه يسيء فهم النفس
الإنسانية، ويفتح الباب أمام نفاق أخلاقي خطير، يتظاهر فيه الإنسان
بالكمال بينما يعجز عن مواجهة ذاته.
إنّ الاختلاف الحقيقي بين الناس لا
يظهر في لحظة الرغبة، بل في لحظة الاختيار. الرغبة تطرق باب الجميع
تقريباً، لكنّ الاستجابة لها ليست واحدة. شخصان قد يعيشان الإغراء
نفسه، لكنّ أحدهما يختار أن يضع له حدّاً، والآخر يتركه يقوده. هذا
الاختيار لا يحدث في فراغ، بل يتشكّل عبر تراكم طويل من القرارات
الصغيرة. كلّ مرّة يقدّم الإنسان قيمة أعلى على مصلحة أدنى، فإنّه
يدرّب نفسه على هذا النمط من السلوك، حتى يتحوّل مع الزمن إلى جزء من
شخصيته.
ولهذا، فإنّ الأخلاق ليست حالة ثابتة
يولد بها الإنسان، بل مسار يتكوّن عبر التجربة والمجاهدة. الفضيلة
ليست غياب الصراع، بل القدرة على إدارته. والإنسان الذي لا يعيش هذا
الصراع الداخلي، إمّا أنّه استسلم كلياً لرغباته، أو أنّه لم يختبر
نفسه بصدق. أمّا من يعيش التوتّر بين ما يريد وما ينبغي، فهو في قلب
التجربة الإنسانية الحقيقية.
وفي هذا السياق، تكتسب كلمات الإمام
علي بن أبي طالب قيمة إنسانية عميقة، لا لأنّها صادرة عن شخصية دينية
فحسب، بل لأنّها تعبّر عن فهم واقعي للنفس. حين يقول إنّه يعلم طريق
الإصلاح، لكنّه لا يرى إصلاح الآخرين بإفساد نفسه، فهو يضع قاعدة
أخلاقية تتجاوز الزمان والمكان: لا قيمة لأيّ مشروع إصلاحي إذا كان
ثمنه سقوط الإنسان في داخله. وحين يقرّ بوجود الرغبة، ثم يعلن رفضه أن
تقوده، فإنّه لا ينكر إنسانيته، بل يؤكّدها، ويمنحها اتجاهاً أخلاقياً
واعياً.
هذا الفهم يحرّرنا من ثنائية مزيّفة
طالما أرهقت التفكير الأخلاقي: ثنائية الإنسان الملائكي في مقابل
الإنسان الشهواني. الإنسان ليس هذا ولا ذاك. هو كائن مركّب، يحمل في
داخله قابلية الصعود وقابلية السقوط معاً. وما يحدّد موقعه ليس ما
يشعر به، بل ما يختاره. لذلك، فإنّ محاسبة الإنسان يجب أن تنصبّ على
أفعاله وقراراته، لا على مجرّد دوافعه الداخلية التي يشترك فيها مع
غيره.
وحين نُدرك هذا التشابه العميق بين
البشر، تتغيّر طريقة نظرنا إلى المجتمع. نتوقّف عن التعامل مع الآخرين
بوصفهم كائنات غريبة عنا، ونبدأ برؤيتهم امتداداً لتجربتنا الإنسانية
نفسها. يصبح الفهم مقدّمة للحكم، والرحمة أساساً للنقد، والوعي بضعف
النفس مدخلاً للإصلاح لا ذريعة للإدانة. فالمجتمع لا يُبنى على إنكار
الطبيعة البشرية، بل على فهمها، وتوجيهها، وبناء أنظمة أخلاقية
وقانونية تأخذها بعين الاعتبار.
في النهاية، حين ينظر الإنسان في
المرآة بصدق، ويفهم أنّ ما يتحرّك في داخله يتحرّك في داخل غيره، يدرك
أنّ الطريق إلى تهذيب العالم يمرّ أولاً عبر تهذيب الذات. لا عبر
إنكار الرغبة، بل عبر إخضاعها، ولا عبر ادّعاء التفوّق الأخلاقي، بل
عبر ممارسة الاختيار الواعي، مرّة بعد مرّة، حتى يصبح الإنسان أكثر
انسجاماً مع نفسه، وأكثر عدلاً مع الآخرين.


