هل ولد المسيح عليه السلام في كربلاء المقدسة؟
مقام نخل
مريم
هو مقام كان موجودا في وسط حرم
الروضة الحسينية المقدسة، ورفع منه(1) سنة 1947م بعد أن نُصب في
موضعه، عند العثور عليه في الحفريات التي أجريت في الروضة
قديما(2)، وكان على شكل صخرة تقع في جدار الركيزة الشمالية
الغربية للقبة المباركة، وتحديدا في الركن القريب من الرأس الشريف
للإمام الحسين (عليه السلام)، وكان وقوعه في هذا الموضع للدلالة
على قربه من موضع الولادة المباركة لنبي الله عيسى المسيح (عليه
السلام)، وفق إحدى روايات الولادة، فكما هو معلوم؛ فقد حصلت
الولادة تحت النخلة التي عادت الى الحياة بالإعجاز؛ وانتصبت
لتُعطي ثمارها للأم الطاهرة (عليها السلام)، وربما لأجل ذلك أرتبط
اسم المقام وشكله بها وبالنخلة التي هزتها.
وجود المقام ـ هنا في العتبة
الحسينية المقدسة ـ في كربلاء وبالتالي في العراق، ليس بالأمر
الغريب، فقد أختلف المفسرون والمؤرخون في محل ولادة السيدة
العذراء للمسيح (عليهما السلام)، فقيل أنه في بيت لحم بناحية
القدس في فلسطين؛ وذلك في الحديث المروي عن الإمام أبي عبد الله
جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)؛ عن الرسول المصطفى (صلى
الله عليه وآله) في حديث طويل في صفة المعراج: "ثم قال لي ـ أي
جبرائيل ـ أنزل فصل"، فنزلت وصليت، فقال لي: "أ تدري أين صليت؟"؛
فقلت: "لا"، فقال: "صليت في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس
حيث وُلد عيسى أبن مريم (عليهما السلام)"(3).
وقيل إنه ولد في كربلاء، فقد روي
عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في تفسير قوله تعالى
((فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا)) (مريم
ـ22)، حيث قال (عليه السلام): "خَرَجَت من دمشق حتى أتت كربلاء،
فوضعته في موضع قبر الحسين (عليه السلام) ثم رجعت من ليلتها"
(4).
وقيل إنه (عليه السلام) ولد في
الكوفة على الفرات؛ وذكرت ذلك رواية عن الإمام الكاظم (عليه
السلام) في حوار له مع نصراني، إشارة الى موضوع الولادة المذكورة
حيث سأل (عليه السلام)؛ النصراني قائلا: ".... والنهر الذي ولدت
عليه مريم عيسى (عليهما السلام) هل تعرفه؟" قال: "لا"، قال: "هو
الفرات وعليه شجر النخل والكرم......) (5).
كما تذكر روايات أخرى أن السيدة
العذراء (عليها السلام) ولدت النبي عيسى (عليه السلام) في بغداد؛
في منطقة براثا؛ على صخرة، ويقال أن هذه الصخرة هي نفسها الموجودة
الآن في جامع براثا في بغداد، وربما تكون قد نقلت اليه فيما بعد
من وقعها في كربلاء ـ على فرض صحة رواية الولادة في كربلاء ـ حيث
أن هناك رواية للولادة؛ تؤكد أنها حصلت في منطقة براثا في بغداد ـ
وهي قرية كانت قبل وجود تلك المدينة ـ فضلا عما ذكرناه في محله
سابقا، وقرائن الرواية تدل على أنها في بغداد، وبراثا بغداد
تذكرها رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) (6)، فيها أحداث
تجري لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) لما رجع من وقعة الخوارج
تكشف رواية أخرى للولادة، حيث جاء منها (..... فلما اتى يمنة
السواد، واذا هو براهب في صومعة له، فقال له: "يا راهب انزل ها
هنا"، فقال له الراهب: "لا تنزل هذه الأرض بجيشك"، قال: "ولم؟"،
قال: "لأنها لا ينزلها إلا نبي او وصي نبي بجيشه، يقاتل في سبيل
الله عز وجل، هكذا نجد في كتبنا"، فقال له أمير المؤمنين (عليه
السلام): "أنا وصي سيد الأنبياء وسيد الأوصياء"، فقال له الراهب:
"فأنت إذا اصلع قريش؟، ووصي محمد (صلى الله عليه وآله)"، فقال له
أمير المؤمنين (عليه السلام) :" أنا ذلك"، فنزل الراهب أليه فقال:
"خذ علي شرائع الإسلام، أني وجدت في الأنجيل نعتك وإنك تنزل أرض
براثا ببيت مريم، وأرض عيسى (عليه السلام)"، فقال أمير المؤمنين
(عليه السلام): "قف ولا تخبرنا بشيء"، ثم أتى موضعا، فقال:
"الكزوا هذا"، فلكزه؛ فأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) موضعا
فلكزه برجله؛ فانبجست عين خرارة؛ فقال: "هذه عين مريم التي أنبعت
لها" ثم قال : "اكتشفوا ها هنا على سبعة عشر ذراعا"، فكشف فإذا
بصخرة بيضاء فقال (عليه السلام): "على هذه وضعت مريم عيسى من
عاتقها، وصلت ها هنا"، فتصبب أمير المؤمنين (عليه السلام) الصخرة
وصلى اليها وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة وجعل الحرم في خيمة
من الموضع على دعوة ثم قال: "أرض براثا هذه؛ بيت مريم (عليها
السلام)؛ هذا الموضع المقدس؛ صلى فيه الأنبياء"، قال أبو جعفر
محمد بن علي (عليهما السلام): "ولقد وجدنا أنه صلى فيه إبراهيم
قبل عيسى عليهما السلام".
ولو نظرنا الى آيات القرآن الكريم
من سورة مريم (عليها السلام)، تلك التي تتكلم عن السيدة العذراء
وولادتها الإعجازية لنبي الله عيسى المسيح عليهما السلام
((فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)))(مريم ـ 22ـ25)،
لرأينا أن السيدة مريم العذراء (عليها السلام) قد خرجت بعد حملها
الإعجازي بمسافة بعيدة عن مكانها (مكانا قصيا) ولو علمنا أن مدينة
بيت لحم الفلسطينية تبعد بحوالي (10) كم جنوبا عن القدس القديمة ـ
حيث كانت تقيم السيدة العذراء (عليها السلام) ـ فإن هذه المسافة
غير بعيدة إلا بمقدار قليل عن القدس القديمة محل أهل السيدة مريم
العذراء (عليها السلام).
وعبارة (مكانا قصيا) تحتمل أمرين،
إما أن بيت لحم تعتبر مكانا قصيا عن القدس بلحاظ المسافات البالغة
(10) كم آنذاك تعتبر بعيدة عرفا؛ بسبب عدم وجود وسائل النقل
الحديثة، وبالتالي سنصل الى مكان الولادة ما لم نجد روايات أقوى
من رواية بيت لحم سندا و(أو) دلالة.
إما الاحتمال الثاني فهو أن بيت
لحم لا تعتبر (مكانيا قصيا) أصلا، بسبب قربها النسبي عن القدس
قياسا بأماكن أخرى هي احتمالات لمحل الولادة المباركة، وبالتالي؛
وطبقا لهذا الاحتمال سنحتاج للبحث في قوة باقي الاحتمالات التي هي
في أغلبها تحدده في العراق، من خلال رجوعنا الى أغلب أحاديث اهل
بيت العصمة (عليهم السلام) في تحديد مكان الولادة فيه ـ مما لا
يخالف ما ورد في الآية ـ حيث إننا لو تتبعنا الاحتمال الثاني
فإننا سنلاحظ إن أي موضع حصلت فيه الولادة المباركة في العراق او
الناصرة شمال فلسطين كما ذكره البعض؛ فأنه سيكون مكانا قصيا ـ أي
بعيدا عن أهلها ـ سواء في بغداد أو كربلاء أو شمالها او الكوفة او
بيت لحم (العراقية) أو حتى الناصرة الفلسطينية؛ وكلها أماكن قصية
عن أهل مريم (عليها السلام) سواء آنذاك او في الوقت
الحاضر.
وان ترجيح احتمال على أخر؛ يتطلب
البحث في الكثير من الأمور التي لسنا بصددها، وإن كنا نميل
للاحتمال الثاني؛ وتحديدا من أن المكان القصي المعني هو في العراق
(7) .
وعلى العموم فإن المقام المذكور
الذي كان موجودا في كربلاء كرمز للولادة المباركة فيه، هو عبارة
عن محراب مرصع بأحجار من الرخام الناصع؛ يخال الناظر أليها أنها
قطع من المرايا، وفي وسط هذا المحراب حجر أسود على شكل دائرة يبلغ
قطرها (40) سم تقريبا، أما المحراب فقد صُمم على شكل نخلتين
منحوتتين من نفس الحجر، وقيل نخلة وسط عمودين من المرمر وفي الوسط
موقع الحجر المذكور(8).
والحجر مصنوع بشكل حديث نسبيا؛
محاكاة للصخرة الأصلية التي ذكرناها في رواية الولادة أو تشبيها
للحدث المبارك بشكل نحتي مجسم، إذ لا يتجاوز عمر الصخرة قرنين من
الزمان؛ فكان المقام مكانا مباركا يُذّكر بموضع الولادة الميمونة
المذكور سابقا، يفد أليه الزوار قبل اندراسه.
وقد ذُكر (9) أن المقام يقع على
بعد مترين من الضريح الحسيني المقدس من جهة الرأس الشريف حيث كان
على شكل صخرة رخامية ملتصقة بالحائط، تُعرف بـ "مقام جذع النخلة"
وهو من الآثار المقدسة في الحرم، وقد جاء وصف هذا المقام في كتاب
(سفر نامة عضد الملك) الذي زار كربلاء المقدسة سنة 1284 هـ /
1867م، وتُرجم بالعربية كما يلي (وإن نخلة مريم هي عمود بين الصفة
ومقابل الوجه المبارك فوق الرأس المطهر حيث يكتنفها عمودان رفيعان
بطول ذراع واحد، وضعت النخلة بين العمودين المذكورين، وبين
النخلتين (هكذا في الأصل، وقبل قليل قال: أنها نخلة مما يوحي
بانها نخلة واحدة) نُصب حجر أسود، وقد ورد وصف موجز لهذا المقال
ننقله حرفيا (وفوق رأس الحسين عليه السلام كانت أسطوانتان قصيرتان
من المرمر ملتصقتان بالجدار الذي كانوا يسمونه (مقام جذع النخلة)
الخاص بمريم العذراء عليها السلام والذي تولّدَ فيه عيسى ابن مريم
عليهما السلام ووضع فوق ذلك المقام صخرة سوداء مشوبة بالحمراء؛
فسألت عن هذه الصخرة فقالوا أن هذه الصخرة انتقلت مع الزوار من
خراسان الى كربلاء ونُصبت قبل خمسة عشرة سنة في هذا المكان (10)
(أي من تاريخ زيارته المذكور في الهامش).
وعن تاريخ المقام ورد ما ترجمته:
أن تاريخ صخرة المرمر المكتوب تحت نخلة مريم هو ((وهزي أليك بجذع
النخلة (1255)هـ (11).
المصادر:
1. ذكر الدكتور هبد الجواد
الكليدار في هامش ص 187 من كتابه (تاريخ كربلاء وحائر الحسين عليه
السلام) ما نصه: أن طاهر القيسي لتدخله الزائد في أمور الروضة
المقدسة وآثارها وبنائها، فقد أصر على رفع هذا البناء التأريخي
المعروف بـ (نخلة مريم) ... الخ، وكان القيسي أحد محافظي كربلاء
المقدسة في 1947 م.
2 . تأريخ مقرد الحسين والعباس /
د. سلمان آل طعمه، ص84.
3 . بحار الأنوار / الشيخ محمد
باقر المجلسي، ج14: ص208.
4 . تهذيب الأحكام / الشيخ
الطوسي، ج6: ص73، وسائل الشيعة / الحر العاملي، ج14:
ص517.
5 . الكافي/ الشيخ الكليني، ج1:
ص480.
6 . مستدرك الوسائل/ العلامة
النوري، ج3: ص323.
7 . حيث يرى المحقق السيد سامي
البدري، "أن ولادة السيد المسيح عليه السلام كانت في العراق على
الأرجح ومنطقة الخلاف هي في أي مكان هي من العراف، فربما تكون
منطقة الولادة في بغداد أو كربلاء أو في منطقة شمالها حاليا
واسمها براثا أيضا، وربما تكشف التنقيبات الأثرية عما يدل على
ذلك"، كما بيّن البدري، "أن بيت لحم المشهورة في فلسطين يوجد
منطقة باسمها تقع في العراق أيضا وقرب النجف الأشرف ويمكن ان تكون
الولادة المباركة قد وقعت فيها، ولا يبعد أن تكون بيت لحم
العراقية اقدم من بيت لحم الفلسطينية وإن الأخيرة قد أخذت اسمها
من الأولى"، "وما جعلنا نذكر ذلك هو أن الكثير من أسماء المناطق
الموجودة في فلسطين لها ما يشابهها في العراق ومنها تل أبيب وقادس
في العراق ومنها القادسية والقدس الفلسطينية، ومعناهما واحد لكن
الأولى اقدم، وقد سميت في عهد أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه
السلام، وربما تقع بيت لحم تلك جغرافيا ضمن منطقة (كوربالا)
الأوسع مساحة والتي تشمل كربلاء والنجف وما بينهما والكوفة ومناطق
أخرى، فيما يعرف بهضبة النجف، فيرجع المولد المبارك لنبي الله
عيسى المسيح عليه السلام الى كربلاء مرة أخرى من خلال بيت لحم
هذه، إذ أن كوربالا اسم لكربلاء واسم أيضا لما ذكرناه من منطقة
كبيرة تدعى أيضا بهضبة النجف"(الباحث).
8 . تأريخ مرقد الحسين والعباس/
د. سلمان آل طعمه: ص83ـ84.
9 . وصف للدكتور الباحث سلمان آل
طعمه.
10 . كتاب (سفر نامة عتبات ناصر
الدين شاه قاجار) الذي زار كربلاء المقدسة حدود سنة 1287 هـ /
1870م.
11 . كتاب (تأريخ وجغرافيا
كربلاي معلى).