

البيروني... عبقري من عباقرة التاريخ
يعدّ القرن الرابع الهجري من أخصب
القرون الأدبية والعلمية والفكرية، فقد ظهر في هذا القرن أعلام
الأدب والفكر الذين دانت لهم القرون بما انتجوا من تصانيف وتآليف
فحفروا بأنامل الإبداع أسماءهم في سجل الفكر الإنساني؛ ويبرز لنا
في طليعة هؤلاء الأعلام أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني؛ أحد
عباقرة الدنيا وواحد من أعمدة الفكر العملي وصاحب العقلية الجبارة
في كافة الميادين العلمية؛ فقد كانت حياته عبارة عن عطاء بلا حدود
منذ ولادته وحتى وفاته رغم الأوضاع غير المتستقرة التي
عاشها.
اختلف الباحثون والمؤرخون في سنة
ولادته ومكانها؛ وأرجحها إنه ولد في 3 ذي الحجة عام 362هـ / 4
أيلول 973م في (بيرون) وهي من نواحي خوارزم وتعني بالفارسية
(البراني) أو الضاحية أي خارج المدينة؛ كما يقول ياقوت الحموي في
(معجم البلدان)؛ وقال البعض انه ولد في (خيوة) وهي احدى ضواحي
خوارزم.
اما لقبه البيروني؛ فقد جاء من
معناه الفارسي؛ وكما اختلف المؤرخون والباحثورن في سنة ولادته
ومكانها فقد اختلفوا في نشأته؛ ولعل سبب ذلك يرجع الى الاوضاع
المضطربة وغير المستقرة سياسياً والتي شابت تلك الفترة التي عاش
فيها البيروني؛ والتي أثرت كثيراً على حياته، فيرى البعض ان
عائلته كانت تشتغل بالتجارة وتعيش خارج اسوار المدينة للتخلص من
حياة المكوس (الضرائب) المفروضة على دخول البضائع الى
المدينة.
ويرى البعض الآخر انه من عائلة
مغمورة واستدلوا على ذلك ببيتين من الشعر ينسبان الى البيروني
وهما:
وذاكراً في قوافي شعـــره حسبي
ولســـتُ والله حقـــــاً عارفاً
نسبي
اذ
لستُ أعرف جدي حق معرفةٍ وكيف أعرف جدي اذ جهلت أبي
ورغم إن هذين البيتين يحتملان معنىً آخر في
نفس البيروني كونه فيلسوفا عميق التفكير وقوله (حق معرفة) تدل على
ذلك؛ إلاّ ان من استند على هذا القول في عدّه مغموراً تعلل بانه
لم يجد أي أثر لابيه أو جده في ميدان العلم؛ اضافة الى انه - اي
البيروني - نشأ يتيماً منذ صغره؛ وتربى في كنف ورعاية العالم
الفلكي والرياضي ابي نصر منصور الذي كان ينتمي الى الاسرة الحاكمة
في خوارزم.
في هذا المرحلة من حياة البيروني،
اشتهر كباحث وطالب علم لا يهدأ ولا يكل في اكتساب كافة المعارف
والعلوم مجتهداً في طلب المعرفة.
مشوار العلم وسط
الاضطرابات
بدأ البيروني بحوثه العلمية وهو
في سن الثامنة عشرة من عمره؛ حيث اجتهد في تطبيق ما حققه من
الارصادات الشمسية والبحوث الفلكية التي قام بها ابو الوفاء استاذ
ابي نصر في مرصده الذي أقامه في قرية جبلية صغيرة في خوارزم وكان
ذلك بداية بحوثه الفلكية؛ غير ان الاوضاع السياسية المضطربة لعبت
دوراً في عدم استقراره في بلده؛ فاضطر لمغادرة خوارزم على إثر أحد
الانقلابات وهو في سن العشرين ـ سنة 382هـ ـ فانتقل الى سواحل بحر
قزوين وتجول في إيران الشمالية فرحل الى ناحية (كوركنج) ثم انتقل
منها الى مقاطعة (جرجان) وفيها التقى باكبر اساتذته وهو الطبيب
والفلكي ابو سهل عيسى المسبحي ثم التحق سنة 390هـ ببلاط امير
جرجان وطبرستان شمس المعالي قابوس بن ابي طاهر بن وشمكير بن زيار
بن وردان الجبلي الذي كان بلاطه يحفل بالعلماء امثال ابن مسكويه
وابي نصر العراقي والحكيم المسبحي والشيخ الرئيس ابن سينا الذي
كانت له مع البيروني مراسلات ومناظرات في مواضيع مختلفة نشرت في
كتاب (جامع البدائع) سنة 1335هـ تحت عنوان (اجوبة عن مسائل ابي
الريحان) وترجمت كذلك الى اللغة الفارسية؛ كما الف البيروني خلال
اقامته في جرجان كتاب (الآثار الباقية عن القرون
الخالية).
عمل استاذا في مجمع العلوم الذي
اسسه امير خوارزم ابو العباس مأمون بن مأمون بن محمد خوارزمشاه
وكان يزامله في نفس المجمع الشيخ الرئيس ابن سينا والمؤرخ العربي
ابن مسكوية؛ وانصب اهتمام البيروني في تلك المرحلة من حياته على
دراسة الفلك والجغرافية الطبيعية؛ واقام مرصداً في القصر الملكي
ووضع نموذجا مجسماً لنصف الكرة الارضية بقطر (15) قدماً؛ رسم عليه
اطول البلدان وعروضها؛ واشتغل بحساب مساحة الكرة الارضية واتجه
الى البت في ميل دائرة البروج.
كانت الاوضاع السياسية في ذلك
الوقت غاية في الاضطراب ففي سنة 407هـ؛ حدث انقلاب عسكري ضد ابي
العباس المأمون أدى الى مقتله مما حدى بصهره محمود ابن سبكتكين
الغزنوي الى دخول خوارزم للانتقام فاحتلها سنة 408هـ ـ 1017م
وضمها الى مملكته وقبض على البيروني وكان عمره حينذاك 46 سنة
واتهمه بالكفر والقرمطة واعتقل لمدة قصيرة مع عدد من العلماء
ومنهم استاذه عبد الصمد الحكيم؛ وتناهى الى عرف ابن سبكتكين
بمكانة البيروني العظيمة بين العلماء وانه امام زمانه في علم
الفلك فاطلق سراحه وقربه منه واقامه في بلاطه ثم اخذه معه عند
دخوله بلاد الهند وفي هذه البلاد بقي البيروني مدة زادت على
اربعين عاما؛ استطاع خلالها ان ينفذ الى عقائدهم وتقاليدهم
وعلومهم وتعلم لغاتهم وخاصة السنسكريتية واطلع على كتبهم فترجم
الكثير منها وقد جمع كل ذلك في كتاب اسماه (تحقيق ما للهند من
مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة).
ويعد البيروني أقدم من دون
ملاحظاته عن تلك البلاد؛ ويعد كتابه عنها اهم كتب ذلك العصر في حق
الجغرافية الإقليمية؛ حيث عالج فيه تأثير العوامل الجغرافية في
الظواهر البشرية؛ وقد انتهى من تأليفه عام 423هـ بعد وفاة السلطان
ابن سبكتكين.
واضافة الى اللغة العربية
والسنسكريتية اللتين كان البيروني يتقنهما؛ فقد كان البيروني يحسن
عدة لغات منها السريانية والفارسية والعبرية.
ومن شدة شغفه بالعلم ما حُكي عنه
انه دخل عليه بعض اصحابه وهو يجود بنفسه، فقال له وهو في تلك
الحال:
ـ كيف قلت لي يوماً حساب الجدات
الثمانية؟
فقال له:
أفي هذه الحال؟
فقال:
يا هذا أودع الدينا وانا عالم بها
أليس خيراً من ان أخليها وانا جاهل بها؟
فقال:
فذكرتها له وخرجت فسمعت الصراخ
عليه وأنا في الطريق.
كنوز علمية في شتى
الحقول
ترك البيروني كنوزاً علمية عظمية
لا تقدر بثمن ويدين له الغربيون في أكثر علومهم وخاصة الرياضيات
والطبيعيات والفلك.
قال (البيهقي): "زادت تصانيفه على
حمل بعير؛ صنف كتباً كثيرة رأيت اكثرها بخطه".
وقال ياقوت الحموي: "واما سائر
كتبه في علوم النجوم والهيئة والنطق والحكمة؛ فانها تفوق الحصر؛
رأيت فهرسها في وقف الجامع بـ (مرو) في نحو الستين
ورقة".
وقدر الدكتور حسن ابراهيم حسن عدد
مؤلفاته بـ (100) مؤلف؛ والاستاذ قدري طوقان بــ (120) مؤلفاً؛
نقل بعضها الى اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية؛ كما ذكر
الاستاذ علي الشحات اسماء (463) مؤلفا.
وتوزعت مؤلفات البيروني بين
المفقود والمخطوط والباقي في مكتبات العالم، متنوعة في مختلف
العلوم؛ فألف في الفلك والهندسة والجغرافيا والرياضيات والتاريخ
والصيدلة والجيولوجيا والفلسفة وعلم الحياة والادب وغيرها من
العلوم؛ ولن ننسى ان نذكر ايضا سعة اطلاعه على كتب الاديان ومن
اشهر كتبه في مجالات العلم كافة كتاب (الآثار الباقية عن القرون
الخالية)؛ وهو أول كتاب وضعه وهو يبحث عن التقاويم والشهور عند
مختلف الامم القديمة؛ وفيه جداول لملوك اشور والكلدان وبابل
والقبط والروم واليونان؛ كما ضم الكتاب ايضاً بحوثاً رياضية
وطبيعية وفلكية عديدة؛ وقد ترجمها الكتاب الى
الانجليزية.
وكتاب الصيدنة ـ اي الصيدلة ـ
وكتاب الجماهر في معرفة الجواهر وتحديد نهايات الاماكن والفلسفة
الهندية ووضع في الرياضيات المتواليات الهندسية وتثليث الزوايا
وحل كثيراً من مسائل الهندسة والتي اصبحت تعرف بالمسائل البيرونية
كما وضع نظرية لاستخراج محيط الارض اسماها العلماء الغربيون بـ
(قاعدة البيروني).
بقي ان نذكر ان البيروني كان
اديباً أريباً لغوياً له تصانيف في ذلك ذكر له ياقوت الحموي
كتابين هما (مختار الاشعار والآثار) وكتاب (شرح شعر ابي تمام)
الذي قال عنه انه رآه بخطه وقد تطرق عدد كبير من المفكرين
والعلماء العرب والمستشرقين قديماً وحديثاً في الحديث عن البيروني
سنوجز هذه الأحاديث ببعضها.
فقد عده فيليب حتّى: "أعظم بحاثة
وعالم في الاسلام في العلوم والطبيعية والرياضية"، وقال الشيخ
عباس القمي في الكنى والالقاب: "انه الحكيم الرياضي والطبيب
المنجم المعروف"، بل قيل انه أشهر علماء النجوم والرياضيات من
المسلمين... الخ.
وقد عدّه السيد محسن الامين من
(اعيان الشيعة) وكذلك الشيخ اغابزرك الطهراني في الذريعة الى
تصانيف الشيعة.
محمد طاهر الصفار