2 جمادي الثاني 1446 هـ   4 كانون الأول 2024 مـ 11:26 صباحاً كربلاء
سجل الايام
القائمة الرئيسية

2020-07-23   2657

الطريق الى الله... قراءة أولية في "برهان الإمكان"

ما أنفك الطريق الى معرفة الله جل شأنه متعددا بعدد أنفاس الخلائق، فبين من يجد عظمته في إلهامة ناعمة، وبين من يجدها في آية عظمى من آياته، بين من يتلمساها عبر المادة، والأخر يتذوقها من خلال الروح، خصوصا وأن في هذا الكون من عظمة الخلق، ما يجعل كل منها مجالا لتدبر الفرد وتفكره وتعمقه وإشغال وحدته، بل وفيه مساحة كافية للتعرف على آثار الخالق الموجد ((قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)) (يونس ـ101).
وبقدر الفارق بين أن يتعرف ذلك الفرد المادي الذي لا يفقه غير ما توصله له حواسه المادية، على عظمة الخالق، وبين ذلك التي يتعبد بها ـ الذي يستقرأ خلف ابسط الجزئيات متسائلا عمن يوجدها بهذا النظم العجيب، متعمقا بغورها وسننها ـ ليوصل الى لذة صغره بحضرة الخالق المبدع، إلا أن المادي يبحث عن عظم الآية وحسب، في وقت يبحث فيه الروحاني إن صح التعبير ـ يمكن التعبير عن الروحاني باللاهوتي أو الإلهي ـ ما يجعل مسافة كل منهما صوب واجب الوجود تتباين بتبان قصودهما، باعتبار إن الأول يبحث في الآثار والثاني يتعمق في موجد هذه الآثار.  
وبتعبير أدق، يبحث المادي عن ماهية المادة، في حين يبحث الإلهي عن معرفة مبدأ المادة ومبدعها، وشتان بين هذا وذاك. 
والمتدبر منا لقوله سبحانه وتعالى ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(البقرة ـ164)، سيجد ألف سبب تدل كلها على عظمة الخالق وتعرف به، خصوصا وأن هذه الآيات لها حضورات جلية في أبسط الأشياء من مأكل ومشرب، فما بالك بأعقدها من افلاك ومخلوقات. 
وبعد إن استغرقنا في مقال سابق، برهان النظم الموصل لمعرفة الخالق، سنتطرق في مقالنا هذا الى قراءة أولية في برهان الإمكان، كبرهان أخر لمعرفة الله جل شأنه، وهذا يتحتم علينا معرفة أولية لمتسلسلة منطقة قوامها أن تصور الشيء ـ أي شيء كان ـ لا بد أن يكون بواحد من وجهين اثنين، إما أن يقبل هذا الشيء للوجود الخارجي عقليا، أو أن لا يقبل ذلك، بلحاظ أن الواجب لذاته يقتضي هو الأخر وجودا من صميم ذاته، بمعنى أن لا يتوقف وجوده على وجود علة موجدة له، باعتباره مستغن عنها، وهو بهذا يشابه الممتنع وجودا بعدم حاجته الى علة، وهو عين ما خلصت له القاعدة الكلامية القائلة بأن "واجب الوجود في وجوده، وممتنع الوجود في عدمه، وكلاهما مستغن عن العلّة" باعتبار إن مناط حاجتهما الى علة ما؛ يندرج الى فقرهما لها، في وقت يكون فيه الواجب، واجبُ الوجود لذاته، والممتنع، ممتنعُ الوجود لذاته، وبالتالي فلا حاجة لهما للارتباط بعلة والاتصاف لها، لأن الواجب يملك الوجود لذاته والممتنع معدم من الأصل.
وبين الواجب والممتنع، يكون الممكن، هو ما يمكن ان تكون له أمكانية وجدود من عدمه، وهو اشبه بنسبة مركز دائرة الى محيطها، بمعنى أن لا يترجح أحدهما على الأخر في الأهمية والدور. 
من جهة أخرى، فأن دور الشيء ـ كون الشيء موجدا لشيء اخر، والأخير موجد للأول كجمع بين نقيضين ـ وتسلسله الذي هو سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة، مترتبة غير متناهية، ممكنة دائما، بمعنى أن يكون الشيء معلولا لما هو فوقه، وعلة لما هو تحته ـ وبطلان ذلك عليه.
ولما كانت الحياة مليئة بالموجودات الممكنة ـ الإمكانية ـ باعتبار أن هذه الأشياء توجد من عدم، وتنعدم اليه، تحدث من الفناء، ويفني حدوثها، تتبدل وتتغير، ما يعني اتسامها بالإمكان، وبتعبير أدق، الافتقار.
وقد وظف القرآن الكريم برهان الإمكان في الكثير من آياته الشريفات، ومنها قوله سبحانه وتعالى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17))(فاطر ـ15 ـ17)، وقوله ((وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى (50)وَثَمُودَ فَمَا أبقى (51))(النجم ـ 45 ـ51)، وهو ما يثبت أن هذا الممكن ـ الإنسان مثلا ـ يبقى محتاج للعلة الكبرى، ولا يتحقق بدونها البتة، كونه لا يملك لنفسه وجودا ولا يمكنه تحقيق ذلك. 
ومن جهة أخرى، فان أدل دليل على إمكانية هذا الممكن، هو عدم قدرته على إيجاد ممكنا اخرا، أصالة واستقلالا من دون العلة الموجدة لهما، وهي الله جل شأنه ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36)أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ۖ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38)أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (40) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ(41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ(45))(الطورـ35 ـ45). 
والخلاصة، أن امتناع الدور والتسلسل يؤدي بالضرورة الى استنتاج برهان الإمكان، ما يجعل القياس ممكنا وليس عقيما، بتعبير أدق، إن دليل إثبات الصانع يكون من خلال امتناع الدور والتسلسل عليه، ما يجعل البرهان ناهض وقائم، وهو ما قد توافر في برهان النظم ـ الذي تحدثنا عنه سالفا ـ كبرهان حقيقي، باعتباره دالا على إن لهذا الوجود خالقا واجب الوجود، تنتهي إليه سلسلة الممكنات ما يجعل استحالة دوره وتسلسله. 

جميع الحقوق محفوظة لموقع (الإسلام ...لماذا؟) - 2018 م