بخارى... مدينة الجامعية الكبرى
رغم أنها تأسست سنة 500 قبل
الميلاد بشكل رسمي، الّا أن لبخارى جذور تاريخية أعمق من ذلك، فقد
سكن الإنسان هذه المنطقة ـ التي هي عبارة عن واحة كبيرة تتخللها
الأنهار والبساتين ـ قبل ذلك بآلاف السنين، وقد كشفت الحفريات
الأثرية في تلك المنطقة، آثاراً تعود للعصر البرونزي، أي منذ 3000
سنة قبل الميلاد، حيث كانت حضارة ساباللي ومن ثم حضارة آريان،
تعيشان على أرضها.
بخارى إحدى مدن بلاد ما وراء
النهر، تقع على طريق الحرير التجاري الاستراتيجي في ذلك الزمن
(وهو شبكة من الطرق البرية والبحرية تربط أنطاكيه ومدن أوربا
وآسيا بالهند وجنوب شرق آسيا)، وكانت بخارى تسمى أيضا بأرض
النحاس، أو بخارى الشريفة، ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان
قائلا: "هي أعظم مُدُن ما وراء النهر وأجلّها، يُعبَر إليها من
آمُل الشّطّ، وبينها وبين نهر جيحون يومان من هذا الوجه، وكانت
قاعدة ملك الأمارة السامانية" كما ذكرها بطليموس في كتاب
الملحمة، فيها قلعة دفاعية أثرية قديمة تسمى السفينة، يرجع
تأريخها الى القرن الرابع قبل الميلاد، حسب ما ذكره
الآثاريّون.
أما اليوم، فهي إحدى مدن جمهورية
أوزبكستان، وعاصمة ولاية بخارى، نفوسها تزيد على(263,000) نسمة،
ترتفع عن مستوى سطح البحر بـ (220) م، وتقع على خط طول (64) درجة
و(38) دقيقة شرق خط كرينيتش، وبين دائرتي عرض (39) و(43) شمال خط
الاستواء، تقع على مقربة من نهر زرافشان، سكانها من الطاجيك
والأوزبك، ولغة أهلها هي الطاجيكية، بخارى من المواقع التي
أعلنتها اليونسكو موقعا للتراث العالمي لأهميتها التاريخية
والحضارية الكبيرة، كان يسكنها اليهود منذ العصر الروماني، ثم
العصر الإسلامي، جنبا الى جنب مع المسلمين حتى بداية القرن
العشرين الميلادي، لكنهم هاجروا بعد ذلك الى الولايات المتحدة
وإسرائيل.
التاريخ الإسلامي
لبخارى
فتح قتيبة بن مسلم الباهلي بخارى
سنة 90 هـ أيام الوليد بن عبد الملك، فانتشر الإسلام بين أهلها،
وازدهر فيها العمران، ونشطت فيها الحركة العلمية، وانتشرت في
أرجائها المدارس، اشتهرت بخارى بالعلم والعلماء، يقصدها طالبو
العلم من كل البلاد الإسلامية، حيث كبار العلماء، كأسرة آل برهان
التي ظهرت في القرن السادس الهجري، والتي كان زعيمها يسمى بـ
(الصدر)، تضم بخارى أكثر من(140) أثرا ومَعْلما حضاريا إسلاميا،
أهمها ضريح البخاري ـ صاحب الصحيح المعروف ـ وقبة السامانيين،
ومسجد نمازكاه، كما أنها كانت موطنا للطبيب والفيلسوف الإسلامي
المعروف أبو علي بن سينا، أما جدار قلعة بخارى فقد ظل شاخصا الى
يومنا هذا، والذي يسمى بالسفينة.
الاجتياح
المغولي
ظلت بخارى تعيش عصرها الذهبي حتى
سنة 616هـ الموافقة لسنة 1220م، حيث هاجمها المغول بقيادة جنكيز
خان، فأحرقوا المدينة، عدا المسجد الجامع وبعض القصور، ودمّروا
أغلب معالمها الحضارية ومساجدها، وأباح جنكيز خان لجنوده السلب
والنهب والتخريب في بخارى، وعاشت بخارى نكبتها العظيمة، وظل
المغول يحكمونها بهذه الطريقة لفترة طويلة من الزمن، و لكن رغم
سقوط بخارى سياسيا، الا أنها احتفظت بمكانتها العلمية والدينية،
حتى في أوقات الاحتلال، كما ذُكِر أنها استعادت عافيتها بعد فترة
من الاحتلال المغولي ومارست حياتها العلمية، خصوصا في فترة حكم
خلفاء جنكيز خان المتأخرين الذين دخلوا الإسلام، فَخَفّت وطأة
الاحتلال المغولي.
بخارى مدينة
جامعية
دخل الأوزبك الإسلام في مطلع
القرن الرابع عشر الميلادي، فقاموا ببناء المساجد والمدارس في
سمرقند وبخارى، واهتموا بالعلوم والآداب، فأصبحت بخارى مقصدا
يؤمّها الناس من بلاد الهند وكشمير وبلاد الأندلس، فقد ذاع صيت
مدارسها العلمية في جميع بلدان الشرق، وبالأخص الإسلامي منها، ومن
الجدير بالذكر أن اصطلاح (المدارس)، يقابل في زماننا هذا اصطلاح
(الجامعات)، معنى هذا أن بخارى كانت مدينة جامعية بامتياز،
واستمرت بخارى تمارس دورها العلمي هذا فترة طويلة من الزمن، حتى
حلول سنة 1920م من القرن الماضي، حيث المد الشيوعي الذي اجتاح
المنطقة برمتها، وأتى على بخارى، كما على غيرها من المدن
الإسلامية، فأسقط الشيوعيون حكّامها (الخانات)، وأغلقوا جميع
مدارس بخارى الّا واحدة فقط، ومنعوا الصلاة في جميع مساجدها،
لكنها ظلت تحتفظ بأغلب معالمها الحضارية والأثرية الإسلامية الى
يومنا هذا.
بخارى بعد
الشيوعية
أفل نجم الاتحاد السوفيتي، وشاخ
سلطانه، بعد سبعين سنة من قيامه، ثم انهار سنة 1991م، فكان سقوطه
فرجا للجمهوريات الإسلامية التي كانت ترزح ولفترة طويلة، تحت
سلطانه، مما أدى الى استقلال الجمهوريات الإسلامية، ومن ضمنها
جمهورية أوزبكستان، يومها تنفست بخارى والكثير من المدن الإسلامية
الصعداء، بخلاصها من ذلك.